كان مسار الحضارات التقليدية الكبرى، والإسلام من بينها، ثابتاً في اتجاه معين، إلا أنه تعرض للاهتزاز والاضطراب إبان المواجهة مع الغرب وحداثته. وقاد هذا الاضطراب إلى تمزق هذه الحضارات بين عالمين متعارضين، وبين مستويين من الحضور في العالم: تقليدي وحداثي.
وإذا استخدمنا مصطلحات المفكرين الإيرانيين قبل الثورة فإننا سنقول إن هذه الحضارات التقليدية الكبرى قد ابتليت بالغرب والتغرب. والتغرب (غرب زدكي) مصطلح نحته الفيلسوف الإيراني أحمد فرديد، وانتشر على يد جلال آل أحمد حين ألف كتاباً بهذا العنوان. وبحسب داريوش شايغان فإن الترجمة الفارسية الحرفية لهذا الاسم المركب تعني «تلقي ضربة من الغرب مثلما أن الاسم المركب (آفتاب زدكي) يعني التعرض لضربة شمس ... وتلقي ضربة من الغرب يمكن أن يعني كذلك أننا تلقينا تاريخ الغرب، وفي ركابه قيمه، كما لو أن جبلاً جليدياً انهار على رؤوسنا».
والابتلاء بالغرب هو تعبير عن هذه الضربة الموجعة، وعن هذا الجبل الجليدي الذي انهار على رؤوس الحضارات التقليدية الكبرى. وبتعبير آخر فإن الابتلاء بالغرب قد فرض نفسه على الحضارات التقليدية الكبرى، وحملها على أن تغير قليلاً أو كثيراً، في مسارها، وأن تطرح على نفسها أسئلة جديدة لم تكن مطروحة في تاريخ هذه الحضارات. وسؤال «المسلم المعاصر» أو «المسلم الحداثي» سؤال حديث لم يطرح على المسلمين في العصر الوسيط، لا لأن الحداثة نظام ثقافي جديد ولم تعرفه مجتمعات الإسلام إلا في أواخر القرن الثامن عشر، بل لأن هذه هي المرة الأولى التي يتواجه الإسلام والحداثة بعد أن تعرض الاثنان للأدلجة ما جعل اللقاء بينهما صدامياً، وكأننا أمام لعبة «ذات حاصل صفري»، إذ يكون ربح أحد الطرفين في امتلاك عقول الناس وحياتهم هو خسارة للطرف الآخر.
سبق لأنظمة ثقافية مقبلة - كما الحداثة تماماً - من خارج ديار الإسلام أن زاحمت الإسلام، وأقصد بذلك فلسفة اليونان، إلا أن الإسلام كان من القوة ومن تجرده من الأدلجة بحيث تمكن من استيعابها ودمجها داخله. وفي هذا السياق كتب ناصر خسرو (1078م) كتابه «جامع الحكمتين» الذي سعى فيه إلى التوفيق بين الشريعة والأطروحات المنطقية للعلوم النظرية. ومن بعده كتب ابن رشد (ت 1198م) كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة من الاتصال»، وخلص إلى أن «الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة»؛ لأن «الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».
وحين تزاحم الإسلام والحداثة داخل ديار الإسلام كان واضحاً أن هذا التزاحم ليس كسابقه حين تزاحم الحق مع الحق الذي يوافقه ويشهد له. وظهر جلياً أن الحداثة صارت شرطاً كونياً لا مفر من الابتلاء به، وهو ابتلاء كان من عواقبه أن تعرض الإسلام والحداثة للأدلجة التي صيرتهما أنظمة كلية شمولية تنتظم الحياة وجميع شئونها. فدخلت الحداثة كايديولوجيا أرض المنافسة كضديد للإسلام كايديولوجيا، ومزاحم له لن يقبل بأقل من إزاحة الدين من المشهد وحصره داخل إطار التجربة الشخصية. وهذا هو خيار العلمنة التي طرحت، في عالمنا، كحل أقرب إلى التسوية بين الإسلام والحداثة. وكانت النتيجة هي «علمنة الأفكار المقدسة»، و«تقديس الأفكار العلمانية». وهذه من طبائع الأدلجة، ومن عواقب أدلجة الدين وأدلجة الحداثة.
وهكذا فإن ما يفرض نفسه علينا هنا ليس تزاحم نظامين ثقافيين قويين، بل تزاحم نظامين قويين تعرضا للأدلجة. وعلى هذا فإن تحليل هذه الأدلجة أمر لا مفر منه إذا ما أردنا الوصول إلى فهم أعمق لهذا التزاحم الحاصل اليوم بين الحداثة والإسلام؛ لأن الفهم الخاطئ يقود إلى معالجات خاطئة، ويهيئ من ثم لصراعات محتدمة لا تهدأ ولا تقبل التسويات والحلول الوسط.
وما تجدر ملاحظته أننا حين نتحدث عن الحداثة فنحن نتحدث عن نظام ثقافي، وهو في هذا نظام لا يختلف عن بقية الأنظمة الثقافية الكبرى في تاريخ البشر. وعرف هذا التاريخ تحولات في الأنظمة الثقافية الكبرى ابتداء من الأساطير والميثولوجيا إلى فلسفة اليونان إلى دين العصور الوسطى (عصر الإيمان كما يسميه ويل ديورانت) إلى حداثة الغرب إلى ما بعد الحداثة.
والنظام الثقافي ليس شريراً بطبعه، غير أنه قابل لأن يكون كذلك في أية لحظة يتعرض فيها للأدلجة. وسياق المزاحمة تنشط الأدلجة أي جعل النظام كلي الحضور وشاملاً ينتظم كل شيء في الحياة. ففي الأسطورة كل شيء قابل للتفسير الأسطوري، أما في اليونان فقد كان كل شيء قابلاً لأن يكون موضوعاً للفلسفة من الميتافيزيقا إلى فن الشعر، ومن الفيزيقا والطبيعيات إلى الأخلاق والسياسة. وفي حركات الإسلام السياسي أصبح كل شيء قابلاً للفهم والتأويل الدينيين من عبادة الله إلى نظام الحكم والاقتصاد ولبس الحذاء وقيادة السيارة. ولم تكن الحداثة بدعاً من الأنظمة الثقافية.
هذه أبرز الأنظمة الثقافية الكبرى في تاريخ البشر، وهي أنظمة ظهرت في التاريخ بصورة متعاقبة، وفي مواقع ثقافية متباينة، إلا أن هذا التعاقب لا يعني تلاشي النظام حين يظهر نظام بديل جديد، بل الذي يحدث أن النظام الجديد يكون من القوة بدرجة تؤهله لإدماج النظام القديم في داخله، وتحويله، على إثر ذلك، إلى جزء يتناسب معه بصورة عامة. هذا ما حدث حين حل التحليل العقلاني في فلسفة اليونان محل التفسير الأسطوري، وهذا ما حدث حين استوعب الإسلام فلسفة اليونان.
استوعب الإسلام فلسفة اليونان، وأنجز بذلك تحولاً جرى من دون أزمات عميقة في هذه الثقافة، إلا أن التحول الذي لم ينجز إلى هذا اليوم، وإذا مر فإنه لن يمر من دون أن يخلف وراءه أزمات عميقة إنما هو التحول من الدين إلى الحداثة في ثقافتنا المعاصرة. إلا أن الافتراض أن هناك تحولاً سيتم لا محالة من الدين إلى الحداثة إنما هو جزء من المعضلة. وجزء من أدلجة الحداثة.
يتحدث البعض أن الإسلام يعيش اليوم أزمته مع الحداثة، وأن التطرف الإسلامي تعبير عن «إسلام مفجوع بفقدان غلبته». والصحيح أن الأمة تعيش اليوم أزمتها مع أدلجة الإسلام وأدلجة الحداثة معاً. فقد تعرض الإسلام كما الحداثة إلى عملية أدلجة حولته من نظام ثقافي يقبل التعايش مع غيره من الأنظمة وطرق الحياة إلى ايديولوجيا شمولية مطلقة قطعية لا تقبل المنافسة والمزاحمة، ولا تستطيع التنازل عن طابعها الكلي الشمولي. بل قد يؤخذ هذا التنازل كما لو كان تقويضاً لأصل النظام. وعلى هذا فلا الحداثة تقبل أن تنحصر في مجال ضيق كما انتهت إليه فلسفة اليونان، ولا الإسلام كذلك يقبل أن ينحصر في مجال ضيق كما انتهت إليه مسيحية الغرب (وإن كان هذا الكلام الأخير ليس صحيحاً بالمطلق).
وبهذا المعنى فإن أي مسعى إلى «تحديث الإسلام» أو «أسلمة الحداثة» محكوم عليه بالفشل الذريع، لأن كلا المسعيين يحاول تكييف أحد النظامين من أجل أن يتواءم مع الآخر، فالمسعى الأول - تحديث الإسلام - يقدم الحداثة على حساب الإسلام وينتهي إلى «علمنة الأفكار المقدسة» فيصبح «الوضوء وقاية صحية» و«الصلاة رياضة» و«الصوم حمية صحية». والمسعى الثاني - أسلمة الحداثة - يغلب الإسلام على الحداثة وينتهي إلى «تقديس الأفكار العلمانية». أما المغفول عنه في هذين المسعيين فهو ما تعرض له كلا النظامين - الحداثة والإسلام - من أدلجة طبعته بالطابع الكلي القطعي. وهذا يعني أن كل مساعي الدمج بين النظامين لن يكتب لها النجاح إلا بمحو الطابع الكلي والدوغمائي للإسلام والحداثة معاً، أي بتجاوز الأدلجة.
الخلط بين المفاهيم
وعلى هذا فإن التعارض بين الحداثة والإسلام تعارض ايديولوجي في جوهره، لأن الحداثة ytinredom كنظام ثقافي شيء، وايديولوجيا الحداثة msinredom شيء آخر، وكذلك فإن الإسلام malsI كنظام ثقافي لا يتطابق مع الإسلاموية msimalsI كايدولوجيا دينية. ولهذا التفريق أهمية خاصة، بل أتصور أن معظم اللبس يحدث في هذا السياق بسبب الخلط بين هذه المفاهيم: الحداثة والحداثوية من حيث هي أصولية حداثية، والإسلام والإسلاموية من حيث هي أصولية إسلامية.
وبحسب ألان تورين فإن الحداثوية هي ايديولوجيا الحداثة الغربية، كما أن الإسلاموية هي ايديولوجيا الإسلام السياسي. وفرق شاسع بين النظام وأدلجته. فالإسلام والحداثة في الوضعية الأولى نظام ثقافي، في حين أنهما في الثانية ايديولوجيا وأصولية. وكلتا الأصوليتين لا تختصران النظام ولا تتطابقان معه بالضرورة. والأصوليتان - الحداثية والإسلامية - ظاهرتان حديثتان أخذتا في الظهور حين شعر النظام بالمزاحمة. فالأصولية الإسلامية ظاهرة حديثة، وهي نتاج القرن العشرين حين شعرت النخبة الإسلامية بمزاحمة الأصولية الحداثية، بل هي ردة الفعل الرئيسية على هذه الأصولية وعلمنة التفكير وتحديث السلوك والمؤسسات وأشكال التواصل بين البشر. وبتعبير كليفورد غيرتس فإن أدلجة الدين أو تحويل الدين إلى ايديولوجيا نتيجة مباشرة لعلمنة التفكير. وهي ردة فعل متوقعة.
ويقوم الفرق بين الحداثة والأصولية الحداثية، والإسلام والأصولية الإسلامية على مفهوم يسميه كليفورد غيرتس بـ «قوة النظام الثقافي»، ويقصد به درجة حضور هذا النظام في حياة الأفراد الذين يتبنونه من حيث مركزيته أو هامشيته. فبعض الأفراد يكون «ولاؤه الديني هو محور وجوده كله»، والمركز الذي تدور حوله كل حياته، ويكون مستعداً للموت من أجله كما هو الحال في الشهادة والاستشهاد، فيما آخرون يكون العلم أو الفن أو الفلسفة محور وجودهم ويكونون كذلك مستعدين للموت من أجله كما في حال سقراط وجيوردانو برونو الذي أحرق ولم يتراجع عن «حقائق» العلم التي آمن بها. وبإمكان الأدلجة أن تقوم بمركزة وجود الأفراد حول أي نسق ثقافي مهما كبر شأنه أو صغر. فما هو مركزي في حياة الناس وما يكونون مستعدين للموت من أجله، ليس بالضرورة نسقاً ثقافياً عظيماً، بل هو في الغالب نسق تمكنت الأدلجة من مركزة حياة الأفراد حوله وارتهانها به
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1350 - الأربعاء 17 مايو 2006م الموافق 18 ربيع الثاني 1427هـ