تذكر الإحصاءات الرسمية أن عدد مواليد العام 1973 بلغ 6478 مولودا، منهم 3250 ذكوراً، و3228 إناثاً، وكنت - أنا - واحدا من هؤلاء المحظوظين الذين ولدوا أحياء في هذا العام، عام الانتصارات العربية (حرب أكتوبر)، وعام انطلاقة التحول الديمقراطي الفذ محلياً من خلال إقرار دستور 73، وقيام أول برلمان منتخب في تاريخ البحرين.
يقال إن الذين يولدون في زمن واحد يخبرون معا التجارب نفسها والوقائع الحياتية الكبرى. وأنا واحد من هؤلاء الذين ولدوا إبان دخول الوطن في مدار التجارب الكبرى والخبرات المؤسسة: الدستور والبرلمان. ومن المؤكد أن كل الـ 6478 مولوداً لم يكونوا على وعي بما كان يجري من حولهم، وكذلك لم يكن أي منهم يعي النهاية الكارثية الكبرى بعد عامين من ولادتهم. في عامين فقط ابتدأ كل شيء وانتهى كل شيء. إلا أن ما انتهى هو الذي كون خبرتنا الحياتية المشتركة والمؤسسة نحن الـ 6478 أبناء العام 73، مع الآلاف المؤلفة التي انضمت إلينا من مواليد الأعوام التالية.
في العام 73 ابتدأ التاريخ، وفي العام 75 انتهى كل شيء، ومن هذه النهاية ابتدأ مدار جديد كتب على البلاد ومن عليها أن يمروا به، ومن هذا المرور الطويل والمر ابتدأت خبرتنا الموشومة بانسداد الأفق، ونهضت ذاكرتنا المؤسسة على ضياع الحلم الذي انكفأت انطلاقته بعد عامين. ومع هذه الانكفاءة انتهى التاريخ بالنسبة الينا نحن الـ 6478 أبناء 73، وانغلق الأمل في المستقبل، وبقينا أسرى لأخلاقيات اللحظة وللشأن اليومي الممل والكئيب. وهذا في الحقيقة شأن كل من يكتب عليه أن يعيش في لحظات التأزم السياسي الفادح والمشل. وبحسب المفكر الفرنسي ميشيل مافيزولي فإن ما ينتعش في لحظات التأزم السياسي هو «هوس الحاضر، وهم الهنا والآن»، أي أخلاقيات اللحظة التي تتصدر في الواجهة حين ينطفئ التاريخ وينسد أفق المستقبل، ويصبح كل شيء ممكناً لأنه لا يخضع لأي منطق.
لم يحدث بالنسبة الينا طوال الستة والعشرين عاماً تقدم سياسي يتجاوز هذه الانكفاءة وهذا الانسداد في الأفق والعمى المزدوج عن التاريخ والمستقبل، حتى جاء العام 2001 فابتدأ التاريخ من جديد بالنسبة الينا نحن الـ 6478. أبناء 73 وتكشف لنا أن اعتقادنا بالنهاية المبرمة للتاريخ في العام 75 لم يكن غير وهم استبد بنا تماما كما استبد الوهم ذاته بفوكوياما وهيغل من قبله.
حين كتب فرانسيس فوكوياما مقاله عن نهاية التاريخ في صيف 1989 فقد كان يتنبأ أن التاريخ سينتهي بعد تحطم سور برلين وانهيار الشيوعية؛ لأن العالم سيتحول إلى مجتمعات الرأسمالية الديمقراطية، وبهذا التحول ستتوقف كل الصراعات الايديولوجية والحيوية الكبرى. ومن قبله كان هيغل قد قال إن التاريخ انتهى في العام 1806 حين اعتقد أن مبادئ الثورة الفرنسية قد توطدت إلى درجة أنه لن يحدث أي تقدم سياسي جوهري يتجاوز هذه المبادئ. وكما كان هيغل واهما فإن فوكوياما قد اعترف أنه كان على خطأ فعاد واعترف بحقيقة أن «الجدل الوحيد الذي لا يمكن دحضه هو أن نهاية التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية إلا إذا كانت للعلم نهاية»، وبما اننا «لم نقترب من نهاية العلم» فإن التاريخ لا يمكن أن ينتهي إلا بنهاية الإنسان.
من يسترجع ذكرى تلك الأيام الاستثنائية من العام 2001 أيام الاستفتاء على «ميثاق العمل الوطني»، سيتأكد له أن التاريخ البحريني ابتدأ من جديد بهذا الاستفتاء الذي فجر الآمال الكبيرة بأن صفحة سوداء من الماضي و«التاريخ الميت» قد طويت، وأن هجعة الأعوام الستة والعشرين العجاف قد ذهبت. لقد طوى الفرح الغامر الذي أغرق البلاد والعباد الذاكرة الجماعية المثقلة بالصراعات والتجاذبات والتمزقات والانقسامات المؤلمة.
ابتدأ التاريخ في العام 2001 كما ابتدأ في العام 1973، إلا أن الوهم الذي استبد بنا طوال 26 عاما لايزال من القوة، إذ يجعلنا نعيش في خوف حقيقي من نهاية تاريخ شبيهة بنهاية العام 75. ومؤشرات ذلك تظهر حين يتبين لنا أنه لم تمض سنة واحدة حتى تجددت التجاذبات والانقسامات على خلفية الخلاف بشأن دستور 2002. وعادت بذلك سيرة الانقسامات والتجاذبات القديمة في ثوبها الجديد. ووصلنا اليوم إلى منعطفات حاسمة تؤذن بنهاية جديدة للتاريخ، أو هي عودة جديدة للتاريخ الميت المنطفئ الذي لا يكف عن تدخلاته المفاجئة، ولا يكف عن تحويل الآمال الكبيرة إلى مخاوف حقيقية، مخاوف من أن ينتهي في طرفة عين كل ما تحقق وأنجز على الأرض من حرية صحافة وحرية العمل السياسي، والاهم من هاتين الحريتين: حرية العيش الآمن الكريم، وحرية الأمل في مستقبل أفضل، وفرصة التحرر من العمى المزدوج.
كما كان هيغل واهماً، وفوكوياما مخطئاً كذلك كنا نحن واهمين ومخطئين، فالتاريخ لم ينته ليبدأ في 2001، إلا أن هذا العام كان من القوة، إذ تمكن من إيهام الجميع بنهاية التاريخ، فلما تزعزعت قوة 2001 - كما تزعزعت من قبله قوة 1973 - عادت الأنماط القديمة من التجاذبات والسلوكات من جديد لتؤكد حضورها في كل مكان: قوانين متشددة في كل مجال، ملثمون مجهولون يحرقون في كل مكان، متفجرات في العدلية لا يعرف من وراءها، حرائق في سيارات عامة وخاصة في أكثر من مكان، مسيرات واعتصامات متكاثرة، عرائض ومطالبات وندوات شعبية متحمسة، كتابات صحافية موتورة ومستفزة، اعتقالات ومحاكمات واحتقانات متزايدة، وبلاغات كاذبة عن وجود قنابل موقوتة في مدارس وفنادق... أليس هذا علامة على بداية أزمة سياسية حقيقية؟ أليست هذه الأزمة دليلاً على أن التاريخ لم ينته ليبدأ، بل لا يتصور له نهاية قريبة؟
يتراءى لي أحيانا أننا بعيدون عن نهاية التاريخ، بل نحن الآن قد وضعنا على الطريق المتعرج لفصل من تاريخ ليس بعيدا من نهايته فحسب، بل تاريخ لا يسمح بأي تنبؤ بملامحه حتى في المستقبل القريب، فلا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد عام، كيف سيكون برلمان 2007، كيف ستكون الخريطة السياسية في هذا العام؟
أتصور أن أكبر جريمة تتسبب فيها مثل هذه الأزمة هي أن نؤسس لـ 10443 مولوداً في العام 2001 ذاكرة مثقلة كذاكرتنا نحن الـ 6478 أبناء 73، أن نحرمهم من حقهم الأصيل في الأمل، في التفاؤل بمستقبل أفضل، في إتاحة الفرصة أمامهم ليتحرروا من «أخلاقيات اللحظة» وأغلال العمى المزدوج التي حكمت نحن أبناء العام 73. ومن حق هؤلاء علينا أن يشعروا أن التاريخ لن ينتهي ولن يتوقف في العام 2006، ومن حقهم أن يتجاوزوا سيرتنا المثقلة، وألا يمروا بخبراتنا الجماعية المؤسسة لذاكرتنا القبلية نفسها التي تحتوي على الكثير من المرارة والوجع والخوف وانطفاء الأمل وخضوع المرغم لـ «أخلاقيات اللحظة» والعمى المزدوج. هذه هي ذاكرتنا الموشومة نحن الـ 6478 أبناء العام 73، جيل التحول الفذ والانكفاءة المريرة
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ