العدد 1340 - الأحد 07 مايو 2006م الموافق 08 ربيع الثاني 1427هـ

المزايدون... البيئة والاحتضان

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

لكل كائن حي بيئة تمكنه من الحياة وتتناسب معه بكل تفاصيلها، من المناخ إلى الأرض إلى مختلف الظروف المحيطة والمؤثرة، إذ لا يمكن للأحياء التي تقطن القطب المتجمد الشمالي على سبيل المثال أن تعيش في منطقة أخرى من العالم تقع على خط الاستواء، حيث درجة الحرارة العالية.

من المؤكد تماما أننا لو أخرجنا سمكة من بيئتها المائية المالحة إلى بيئة مائية أخرى تفتقد الملوحة، فقد نكون وضعنا حدا لحياة تلك السمكة ولو بعد حين، أما إذا أخرجناها تماما من الماء، فإننا في الغالب سنشهد موتها بعد بضع دقائق.

لا يختلف هذا الأمر كثيرا عن الظواهر والصفات التي تتفشى في المجتمعات فتتحول إلى سمات وعلامات بارزة في حياتها، فطبيعة كل مجتمع تساعد على بروز بعض الظواهر والسمات، أو تكون مسئولة عن عدم بروزها، فلا يمكن أن توجد ظاهرة الانتحار في المجتمعات التي تؤمن بالله سبحانه وتعالى، وتسلم لقضائه وقدره، ذلك أن الأزمات والمصائب مهما تكالبت وتتالت على هذا المجتمع، فإن نفوس أهله وأبنائه ليست مهيأة للانتحار، بل غاية ما يتوسلون به من حل وملاذ في أزماتهم الشديدة هو قول الله سبحانه وتعالى «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون» (البقرة: 156).

ولنا هنا أن نسأل عن البيئة أو المجتمعات التي تعين ظاهرة المزايدة على النمو والترعرع، فما هي البيئة المناسبة للمزايدين؟ وأي المجتمعات أكثر قابلية لترعرع ظاهرة المزايدات؟

1- المجتمعات المحبطة: السبب الرئيسي في تقبل المجتمعات المحبطة للمزايدين، هو وحدة السير والاتجاه بين المحبط والمزايد، فالمحبط لا يشعر بطعم الجهد المبذول تجاه أي قضية كانت، والمزايد يؤكد للمحبط تفاهة الجهود وخنوع القائمين بها، وهبوط سقفها المطلبي والدفاعي، وفي الوقت ذاته يرسخ توجه المحبط ويعززه في نفسه بالمزيد من قصص المآسي المكدرة، والآهات المحزنة، وبنبرة عالية في التظلم ورفع العقيرة، وهنا يشعر المحبط وكأن ناصرا ينصره فيما هو فيه، ومعينا يتلطف عليه بعونه، وعارفا بواقع الحال يكفي في معرفته ما يثيره من شجون في النفس، وما يحركه من عواطف وأحاسيس في الداخل.

نصر الخديعة والتضليل هذا تجده في المجالس والديوانيات التي يواسي كل شخص فيها آهات المتحدثين بما هو أمر من المصائب، والنكبات والهنات، وتجده في التعليقات التي يكتبها خفافيش الليل بأسمائهم المستعارة على شبكات الانترنت. وتجده أحيانا في المتحدثين على أعواد المنابر في خطب الجمعة وغيرها، وتجده كذلك في الكتاب الذين يظهرون شجاعتهم على الورق، وتجده في خلق كثير لا شغل لهم ولا عمل إلا المزايدات، وإتقان مسرحيات البطولات الكارتونية.

2- مجتمعات الظواهر الصوتية: وهي المجتمعات التي لا ترسم لطموحاتها الخطط والبرامج، ولا ترصد من أموالها وجهدها ما يساوي سقفها المطلبي العالي، ولا تتساءل بين الفينة والأخرى أين هي من آمالها وأحلامها؟ وماذا قدمت لأجل ذلك؟ ولماذا هي مازالت متوقفة هنا؟

مجتمعات يبعدها الزمن عن أهدافها بتفككها وحزازاتها، وتقربها منها (كما تعتقد) الكلمات الوردية أو الثورية (لا فرق) في منامتها وأحلام يقظتها، وكأن الشمس قد استقرت عندها في يد والقمر في اليد الأخرى.

ولأن هذه المجتمعات صوتية، فهي تصفق للجريء لكنها تسلمه عند الوثبة، وتنفس احتقانها بمن يسلط لسانه على مطالبها لكنها تبخل عليه بالغبار الذي يثيره وقع أقدامها على الأرض. مجتمعات تعطي الصوت والصراخ إذا أطربها شيء فدغدغ بعض كبريائها، وحرك حناجرها تماما كما يقول المستمعون المنتشون بالشعر وحلاوته للشاعر (أحسنت) (أعد) (ما غاب صوتك) ثم ينفضون، دون أن يسأل أحدهم عن شأنه وأحواله ومعيشته.

لقد عبر عنهم الإمام علي (ع) بقوله «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد».

3- المجتمعات القشرية: إذا كان مجتمع الإحباط ومجتمع الظواهر الصوتية أكثر احتضانا للمزايدات السياسية وغيرها من مزايدات التبني للانتصارات على أي نحو وأي صعيد تحققت، فإن المجتمع القشري هو الأرضية المناسبة للمزايدات الدينية والعقدية بشتى صورها ودرجاتها.

في المجتمعات القشرية تتحول الجزئيات العقدية (بفعل المزايدات) إلى أصول في العقيدة، وما هو مورد للنقاش إلى ثوابت يحرم الاقتراب منها، وتكبر قضايا جزئية ومهجورة ومنسية لتستعيد شبابها وتعرض باعتبارها كمال الإيمان والطاعة لله سبحانه.

في هذا المعترك المر تتحرك جحافل حماة العقيدة وهي تهدد بالفتوى تارة وبالتكفير والتبديع أخرى، ولا عجب أن تسمع الناعق منهم يصيح وإسلاماه، ضاع الدين، وثلمت الملة، وحرّفت القيم، ولم يبق لنا دين ولا عقيدة.

في هذه البيئات الثلاث ينشط المزايدون، لكنهم يغيبون في مجتمعات الفواتير والمحاسبة والشفافية، كما يختفون في مجتمعات البرامج، التي لا تخدعها المسميات والألقاب والتفخيمات، لأنها تبحث بعمق عن الحقيقة والواقع، والسبب في أفولهم أن المزايدة ليست عملا ولا نصرا، والكلمات الرنانة المدغدغة للمشاعر زهيدة جدا، لأنها في مجتمع الفواتير عملة ليس لها طالب، فهي غير قابلة للصرف، لأنها لا تجلب نفعا، ولا تسمن ولا تغني من جوع.

هذه المجتمعات (المفعمة بالحيوية والنشاط) التي تهز المزايد وهي تطلب منه تقديم كشف لنشاطه، يحوي ما قام به من أعمال وأفعال، لصالح القضية التي يزايد فيها، وما صرفه من جهد في سبيل ذلك، ولا تكتفي بخطبه النارية، وشعاراته الثورية، هذه المجتمعات بيئتها نقية ومعقمة، تمنع انتشار الفيروسات والأمراض، وعلى رأسها هذا الداء الاجتماعي الخطير (المزايدات).

وشتان بين هذه المجتمعات التي تهز المزايد لعلها تحصل منه على ما يفيدها ويعافيها، وبين المجتمع الذي يهز رأسه للمزايدين معبرا عن رضاه لحناجرهم وصراخهم وتهويلاتهم وتضليلهم له

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1340 - الأحد 07 مايو 2006م الموافق 08 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً