كان ذلك المسافر، من بلد إلى بلد، يحلم بمدينة فاضلة أياً كان شكلها... سواء أكانت لأفلاطون أم للسير توماس مور أم للفارابي... مدينة فاضلة والسلام! ذلك لأنه كان يعلم أنها لن تكون موجودة على وجه الأرض شاء أم أبى!
بحث عنها طويلاً... وعلى مدى سنين، وجد نفسه أمام الكثير من المحن والنوازل الذي جعلت منه شخصاً يعيش أوضاعاً قاسية للغاية، وتحطمت نفسيته مما كان يعيشه من ألم، وقلق، وخوف، بسبب حرمانه من حقوقه، وحرمان الآخرين معه، وبسبب غلظة المتنفذين على رقبته ورقاب الآخرين.
هو لايزال يبحث، ولكنه فقد الأمل في العثور على تلك المدينة فقرر العودة إلى بلاده... تلك البلاد الصغيرة الجميلة البريئة التي تبدو كأنها طائر من طيور الجنة، والشواهين والصقور الجوارح تنهش جسده الصغير.
اعتاد الهم، ولكنه لم يترك مجالاً، لأن تحقق عليه الهموم انتصارها الساحق لتسحقه بلا رحمة، وقال في نفسه ذات يوم: «هذا التراب.. تراب بلادي زكي الراحة، رائع الملمس، دافئ يملأ النفس أماناً... لا والله، إلا هذا التراب... لن ابيع منه ولا حبة واحدة».
كانت الأرجل القاسية تدوس وجنتيه على ذلك التراب فيما مضى من السنين، وكان الدم يسيل من أنفه وفمه على ذلك التراب ذات يوم من شدة التعذيب والتجريح والقمع، وكانت يداه ترتجفان وهما تحاولان رفع جسده على ذلك التراب، وكان كلما سقط أحد عشاق بلاده احتضنه ذلك التراب؛ لينام نومته الأبدية.
«وإن يكن، ألا يستحق هذا التراب أن نحميه بالدماء.. فليكن ما يكن»... قال ذلك وهو يرى بأم عينيه بلاده وهي تحتاج اليه... لا تحتاج إلى دمه، لكنها تحتاج الى قبلة حانية على الجبين وعناق طويل يجعل الأضلاع تلتحم مع بعضها بعضا، وتلتصق القلوب...
إنها الواحة الغناء أيّها الأحبة... فلتبق كذلك
إقرأ أيضا لـ "سعيد محمد"العدد 1337 - الخميس 04 مايو 2006م الموافق 05 ربيع الثاني 1427هـ