العدد 1335 - الثلثاء 02 مايو 2006م الموافق 03 ربيع الثاني 1427هـ

خلل في إدارة الأزمات!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تختبر الأمم الكبيرة قدراتها الذاتية خلال الأزمات العاصفة، وتمتحن كفاءتها في البقاء والاستمرار، بمدى نجاحها في إدارة هذه الأزمات، وتحمل آثارها السلبية، وتخطي مقاساتها المتاعب والمصاعب!

وأحسب أن مصر تحديداً، تعرضت خلال شهرين أو أكثر قليلاً، لثلاث أزمات متتالية، كان يمكن لواحدة منها فقط أن تقلب الأرض رأساً على عقب، فتسقط حكومات ويحاكم وزراء وتهدر المظاهرات الغاضبة في شوارع لا تنام تطلب الثأر وإقامة العدل والقصاص.

والأزمات الثلاث، هي بترتيب وقوعها، أولاً مأساة غرق 1200 مواطن في العبارة «السلام»، التي استقرت في قاع البحر الأحمر، دافنة معها أسراراً كثيرة، بدت روائحها الكريهة تتسرب رويداً رويداً... والمهم حين نحفر تحت مأساة هذه العبارة، يقفز في وجوهنا على الفور «الفساد» بكل وحشيته وفسقه، ليطرح على مصر الدولة والحكومة والمجتمع واحدة من أهم وأخطر أزماته، أزمة الفساد المستشري، الذي لم يعد يقبل بنهب المال العام والتربح والتهريب والمضاربة فقط، لكنه أصبح لا يأهب بأي شكل من الأشكال لقيمة الإنسان وروح المواطن الذي هو قاعدة بناء الوطن!

ولا شك أن هذا المواطن يذكر الآن عشرات الكوارث المماثلة التي سبق أن حلت بهذا الشعب الصابر، لتخطف أرواح أبنائه وتذهب بها بعيداً بلا عودة، والأهم بلا تفسير... ولعلنا نتذكر كارثة قطار الصعيد التي التهمت المئات من المواطنين البسطاء حرقاً، وبعد تحقيق وتدقيق تبين لنا أن سبب الكارثة هم ركاب القطار، فاستحقوا الحرق!

في كارثة عبارة السلام، فاجأتنا لجنة تقصي الحقائق بمجلس الشعب، بتقرير مذهل، أهم ما فيه أنه يحمل كثيراً من الصدقية والأمانة في البحث والاستقصاء مع الجرأة في إعلان نتائج ما توصل إليه، وربما لأول مرة في العصر الحديث نجد تقريراً من هذا النوع، يكشف صراحة حجم وشراسة «الفساد الوحشي»، الذي ظل لسنوات يحمي معاقل المفسدين وعصاباتهم، التي باتت تتحكم في كل شيء.

وبدلاً من أن تأخذ الحكومة الرشيدة، هذا التقرير، وتحيله إلى النيابة العامة، وتستفيد منه لسد ثغرات الفساد وتجفيف منابعه، راحت تهاجمه تلميحاً أو تصريحاً، وصولاً إلى اتهامه بأنه متحامل على الحكومة، والحقيقة أنني لم أفهم حتى الآن حكاية التحامل هذه، مثلما لا أصدق أن هناك ضغوطاً قوية على لجنة تقصي الحقائق، لكي تعدل في تقريرها النهائي، وتخفف من اتهاماتها... لا أدري لمصلحة من؟! وأظن أن الأمم الكبيرة حين تختبر في مثل هذه الأزمات، لا تلجأ إلى التخفيف أو التخويف، ولا إلى التعمية والإخفاء، ولا إلى التدليس، و«الطرمخة»، وهذا تعبير عبقري صاغته الذاكرة الشعبية، ولا إلى إخفاء الأدلة وتهريب الجناة مع أموالهم إلى الخارج، حتى تهدأ العاصفة وينسى الناس، فكم نسي الناس أو أُجبروا على النسيان، وهذا ليس أسلوب معالجة الأزمات ومواجهتها كما يجب، لكنه أسلوب للتهرب منها بـ «الطرمخة»، في عصر يتحدث عن الشفافية والمحاسبة والمساءلة!

ومن «الطرمخة» على هذه الكارثة، ننتقل مباشرة إلى الأزمة الثانية، ونعني بها ما جرى حديثاً في بعض كنائس الاسكندرية، وفي الشوارع المحيطة من صدامات بين المواطنين الغاضبين من هذا الطرف والأمن، ثم بين كل الغاضبين والمغضوب عليهم، والنتيجة، تكرار ممل لسيناريوهات سابقة وقعت في مدن ومحافظات أخرى، وستقع حتماً في المستقبل إن ظلت إدارة الأزمة على حالها.

المؤكد أن هناك احتقاناً طائفياً ودينياً بين مسلمي مصر ومسيحييها، رأينا كثيراً من ظواهره السلبية وتجلياته السيئة، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، وتابعنا صعودها بطريقة ملحوظة، وعرفنا أن هناك أيادي خارجية تستغلها لتزيد النار اشتعالاً، ولكن الأهم كيف أدارت الدولة هذه الأزمة المدمرة لكيان واستقرار الوطن!

لقد أدارتها للأسف بأسلوب «الطرمخة» نفسه والتهدئة والمصالحات الشكلية، واللقاءات والموائد والبيانات وربما مظاهرات الوحدة الوطنية، حتى تهدأ النفوس والخواطر، وينسى الناس أيضاً.

لكن الناس لا تنسى ما يتعلق بعقائدها الإيمانية، ولا ينسى المواطن العادي أنه يعامل أحياناً بتمييز واضطهاد مثلاً، وأنه مواطن ناقص المواطنة والأهلية، في بلد هو جذر رئيسي من جذوره الحضارية والبشرية والثقافية، وأن من حقه في هذا العصر، أن يحصل على حقوقه المهدرة وغير المعترف بها، وخصوصاً أن حق التدخل الإنساني أصبح قانوناً دولياً نافذاً!

وبقدر ما كتبنا من قبل عشرات المرات، نطالب بمعالجة أزمة الفتنة الطائفية المتصاعدة بعقل وحكمة وموضوعية، تدفع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، إلا أن سياسة «الطرمخة» والرهان على النسيان مع القمع الأمني بعصاه الغليظة، ناهيك طبعاً عن أسطورة «المختل عقلياً» التي باتت لا تقنع عاقلاً أو مختلاً، ظلت سائدة! ولعلني أشير في هذا المقام إلى أن الخلل في إدارة هذه الأزمة على مدى عقود، أدى إلى استفحال الأمر بخطورة بالغة، اختفلت مظاهره عما مضى، وها هو يجر مصر التي كانت نموذجاً فريداً، في التعايش والتسامح، إلى بؤرة بدأ إشعال فتيلها للصراع الطائفي والديني والعرقي، تغذيه طبعاً أهداف خارجية، لكن أسبابه قائمة في أرضنا.

إن أخطر ما أقلقني هو بروز هذا الانقسام بشكل لم يكن ظاهراً من قبل بهذه الشدة، وصولاً إلى اعتصام المسيحيين في كنائسهم، لجوءاً إلى مرجعهم الديني، يصرخون بقوة، «كرياليسون كرياليسون»... نحن فداؤك يا صليب، ويرد المسلمون بالتجمع حول مساجدهم يرددون: نحن فداؤك يا رسول الله.

هذا هو مؤشر الخطر لانقسام، يبدو هامشياً حدث مرة أو مرات، في ظروف متماثلة، لكني أعتقد أنه مؤشر على تردي العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها، إلى درجة حادة، تستدعي إصلاح الخلل من جذوره، بلا رهان على الهدوء الكاذب والقبلات المنافقة، و«الطرمخة» المعهودة!

وهذا ما ينقلنا مباشرة إلى الأزمة الثالثة، التي هزت مصر ووضعتها في موضع الاختبار القاسي، ألا وهي أزمة الإرهاب الأسود، الذي ضرب قبل أيام، مرة جديدة في ثلاث مناطق بسيناء، بعدما سبق أن ضرب في طابا ثم في شرم الشيخ العام الماضي، الآن عاد إلى دهب المركز السياحي الثالث في هذا الشريط، ما يكشف أن الاختيارات مدروسة، والمواقع محددة، وكذلك الأساليب، أما الجناة والمدبرون والمخططون والممولون، فمازالوا أشباحاً مختفية بعيداً.

وحين نحفر تحت هذه الأزمة، نلاحظ أولاً أنها تهدد بعودة عقدي الإرهاب الأسود، خلال الثمانينات والتسعينات، ونلاحظ ثانياً أن هجماتها الأخيرة مركزة على سيناء شاسعة المساحة قاسية التضاريس منفلتة الحدود على غزة الفلسطينية، و«إسرائيل»، والعقبة الأردنية ثم البحر الواسع، ونلاحظ ثالثاً أن «إسرائيل» وحدها هي التي كانت تحذر مواطنيها من السياح بعدم البقاء في سيناء، قبل كل عملية إرهابية من هذه العمليات، ونلاحظ رابعاً أن الملف بكامله أصبح أمنياً، وهذا خلل في إدارة الأزمة، لأن الأمن على أهمية دوره، فهو ليس السلاح الأوحد لمواجهة الإرهاب الأسود، ولكن مواجهة الإرهاب واستئصال جذوره وبذوره، جهد مجتمعي كبير وطويل المدى.

هكذا تجمعت واجتمعت على مصر، خلال نحو شهرين أو أكثر قليلاً، ثلاث أزمات طاحنة، أزمة الفساد المستشري بعنف، وأزمة الفتنة الطائفية المتصاعدة، ثم أزمة الإرهاب الأسود، ولو كان هناك مخطط بارع وعقل عبقري، أراد أن يغرق مصر في دوامة الأزمات القاتلة، لما فعل أفضل من ذلك، ولما وجد ساحة مفتوحة تسمح له باللعب واختبار الفعل ورد الفعل، أحسن من الساحة المصرية هذه الأيام.

ويهمنا أن نضيف في عجالة أن التذرع الدائم، بأن العدو الخارجي يتربص بنا الدوائر، يصح في بعض الحالات، لكنه ليس صحيحاً في كل الحالات، وخصوصاً إذا كانت الأزمة نابعة من الداخل كالفساد والفتنة الطائفية مثلاً، ونضيف أيضاً أن مصر ومنطقة القلب العربي، محاطتان الآن ببؤر توتر مشتعلة عدة، تسعى إلى مد نيرانها إلينا من كل جانب، فبؤرة العدوان الإسرائيلي تزداد التهاباً، وبؤرة العنف في العراق، منذ الاحتلال الأجنبي، تخمد لتعود إلى الاشتعال، وبؤرة الصراعات العرقية والدينية في السودان، تهدأ في منطقة لتشتعل في أخرى.

وها هي بؤرة التوتر الإيراني الغربي القابلة للانفجار في أية لحظة، ولكم أن تتخيّلوا، ماذا يمكن أن يحدث في كثير من البلاد العربية، إذا ما شنت أميركا ضربة عسكرية، على إيران، وماذا سيكون شكل الرد الإيراني غير التقليدي، غير النووي أيضاً.

وفي ضوء كل هذه الأزمات والتوترات الداخلية والإقليمية والدولية المتشابكة، أعتقد أنه من باب الضرورة القصوى، إعادة النظر في طريقة إدارة مصر للأزمات، والتعامل معها بفكر وأسلوب علمي جديد وجريء، وإزاحة سياسة «الطرمخة» والرهان على فاعلية الأمن وحده أو نفوذ قانون النسيان.

إن مصر ومنطقة القلب العربي، تغليان وتعيشان على فوهة بركان، قد يعتبر البعض أن الهمّ الأعظم انقضى، ولكني أعتبر أن الهمّ الأسوأ هو القادم للأسف الشديد، فقراءة خريطة الحوادث، وتخيل القادم ينبئان عن أن الانفجار قريب، ما يستدعي إدارة أفضل للأزمات، وتوقع حدوثها وتأثيراتها مع التنبؤ باحتمالاتها... بدلاً من انتظار الكارثة، وتفجر الأزمة... ثم نتحرك!

خير الكلام

يحذركم الشاعر

أرى تحت الرماد وميض نارٍ

ويوشكُ أن يكون له ضرامُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1335 - الثلثاء 02 مايو 2006م الموافق 03 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً