العدد 1334 - الإثنين 01 مايو 2006م الموافق 02 ربيع الثاني 1427هـ

«ميونيخ»... مرة ثانية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

يعرض في دور السينما البيروتية فيلم المخرج السينمائي سبنغلر المعنون بـ «ميونيخ»، وهو معتمد على موضوع مطاردة الموساد الاسرائيلي لبعض القيادات الفلسطينية التي تدعي «إسرائيل» انها كانت خلف فكرة اختطاف، ومن ثم اغتيال الرياضيين الإسرائيليين في اولمبياد ميونيخ العام 1972.

القصة التي يرويها الفيلم لا تخلو من الخيال وفيها من الحقيقة بعضها فقط، وهي معتمدة أساساً على تكليف من رئيسة الوزراء آنذاك، جولدا مائير، لشخص كان يعمل في فريق حمايتها لرئاسة فريق من 5 أشخاص من أجل مطاردة اثني عشر شخصية فلسطينية لتصفيتهم في أي مكان كانوا فيه أخذا بثار الرياضيين الإسرائيليين الاثني عشر الذين قتلوا.

لم تكن القضية الفلسطينية معروضة في الفيلم، معظم الحوار والصور المكررة تركز على قدرة الإسرائيليين أو الفريق الصغير الذي تكون خارج رحم المؤسسات الرسمية، أو هكذا أراد المخرج أن يقول للمتفرج، قدرته على استقصاء أماكن ونشاطات من يريد أن يغتالهم من القيادات الفلسطينية، والقيام بما كلف به الفريق على أكمل وجه. هو رامبو جديد، له القدرة الفائقة والعالم مسرحه الكبير.

أن يعرض هذا الفيلم في هذا الوقت يعيد من جديد صورة العربي «الارهابي» الذي لا يتوانى عن قتل النفس البشرية ببرودة أعصاب، في الوقت الذي نرى فيه في الفيلم تصرف الإنسان الحضاري الإسرائيلي.

ففي لقطة اغتيال وائل زعيتر، يزرع الفريق في جهاز التلفون في منزل زعيتر قنبلة شديدة الانفجار، على أساس انه بمجرد ان يرد على التلفون تنفجر فيه، إلا أن ابنته الصغيرة التي عادت بسرعة لتلتقط نظارة والدتها التي نسيتها بعد أن غادرت المنزل لتوصيل الفتاة إلى المدرسة، ترفع سماعة التلفون، فيظهر الفزع على الفريق المنفذ ويجري بعضهم بصورة لاهثة لمنع الكارثة التي تكاد أن تقع في قتل طفلة صغيرة، وفي اللحظة الاخيرة يتمكن الفريق من إيقاف مفاعيل القنبلة عن بعد قبل أن تنفجر، إلا أن الفريق نفسه ما أن غادرت الطفلة المنزل عادل يفجر من دون رحمة زعيتر عندما رد على التلفون! هذه اللقطة بالذات تشيع بين المشاهد غير الفطن، تأكيد «الحضارية» التي يتمتع بها الإسرائيلي!

هذه الروحية «الحضارية» تعود الينا مرارا في ثنايا الفيلم عند الحديث عن دور «إسرائيل» ورسالتها في المنطقة في حوار مكثف بين شخوص الفيلم.

بعد مطاردة واسعة في أنحاء العالم يستطيع فريق القتل المكلف أن ينجح في قتل عدد من القيادات الفلسطينية، منهم محمود الهمشري وكمال ناصر وكمال عدوان وأبويوسف، والثلاثة الآخرون يجري اغتيالهم في بيروت في أحضان عائلاتهم، ويجري اغتيال ليس فقط من هم ضمن القائمة بل وأيضا من يعترض طريق الفريق المنفذ، من دون احترام لأي من القوانين السائدة في الدول التي تجري فيها جرائم القتل، فقط مسئول الأمن الفلسطيني أبوعلي سلامة تجري محاولة اغتياله أكثر من مرة وتفشل بسبب عجيب وهو حماية المخابرات الأميركية له، هذا في الفيلم طبعا!

إلا أن البطل رئيس فريق القتلة تظل تطارده بعد ذلك الهواجس والكوابيس رعبا من أن تقوم الموساد بتصفيته لتغطية العملية بكاملها، إذ إنه منذ البداية قيل له انه متطوع وليس لدولة «إسرائيل» من قريب أو بعيد أية صلة بإعماله، لا توجد ميداليات تعلق على صدره، ولا احتفالات بـ «نصره»، فقط هو قاتل محترف يحقق فخرا لـ «إسرائيل» من دون أن يعرفه احد أو يعترف به احد.

في نهاية الفيلم يحاول احد رؤساء الموساد ان يقنع بطل الفيلم بترك مكانه في بروكلن الحي اليهودي في نيويورك الذي لجأ إليه وأسرته، والعودة إلى «إسرائيل» موطنه، يرفض بشدة، صحيح انه لم يعرف اماً غير «إسرائيل»، كونه تربى في أحد الكيبوتزات الجماعية يتيما، بعد هجر والديه له وهو صغير، ولكنه يصر على ان يعرف بالضبط هل كل من قتلهم لهم علاقة بحوادث ميونيخ أم لا، وما هي تلك العلاقة بالتفصيل من أجل أن «يرتاح ضميره» ويتخلص من الكوابيس الفظيعة التي تراوده.

كما قلت فان القضية الفلسطينية ليست موجودة أو مناقشة في الفيلم والموضوع الاسرائيلي هو الطاغي، فقط نقاش جانبي يحدث عندما يصادف فريق فلسطيني مكلف بأعمال في أوروبا يبيت في المنزل السري نفسه الذي يبيت فيه فريق القتل المكلف بتصفية من يقوم ذلك الفريق الفلسطيني بحمايتهم وهي مفارقة أراد المخرج منها مقابلة «فريقي قتل» لا أكثر، وربما لها رمزية تريد أن تقول، انه حتى في هذه المقابلة غير المنطقية يتفوق الفريق الإسرائيلي.

طبعاً للمتفرج خارج الوطن العربي وربما للعربي خارج الوعي الدقيق يرسل الفيلم رسالة واضحة هي أن القتل عمل عبثي، الأفضل أن يتوقف الناس عن القتل، وهي رسالة تبدو حضارية، إلا أن الفيلم لا يناقش أسباب القتل ودوافعه، وهي أن هناك ظلماً فادحاً وقع على شعب أعزل واغتصبت أراضيه، كما يأخذ الفيلم الوجود الإسرائيلي على الأرض بأنه حق مطلق لا يناقش فيه وان هؤلاء العرب الاشرار يطاردون السكان لقتلهم من دون سبب.

صناعة السينما صناعة فائقة القدرة في التأثير والإقناع، والفيلم (ميونيخ) لا يجب أن ندينه أو نمنعه بسبب موقفه الفكري، إلا أن القصور هو في عرض القضية العربية المحقة، سواء عن طريق الثقافة أو الفن الحديث، وعلى رأسه الفن السابع للسينما.

وان عدنا لقيام دولة «إسرائيل» تاريخياً، فإن أول قرارين اتخذا منذ البداية كانا قرارين ثقافيين، احدهما إحياء اللغة العبرية، والثاني بناء جامعة القدس! وكانا ذلك القاعدة التي تفرعت منها قواعد كثيرة.

الصناعة العربية في ساحة الفن السابع (السينما) مازالت هزيلة، وعلى رغم كل الأموال التي يتصرف بها بعض العرب وهي طائلة، لم يوظف أي مال حقيقي في هذه الوسيلة التي تسمى اليوم وسيلة الإقناع الاهم في العالم، حتى للقضايا المصيرية

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1334 - الإثنين 01 مايو 2006م الموافق 02 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً