ما الذي يحمله المستقبل في مجال الإنسان والبيئة لمنطقة دول مجلس التعاون في السنوات المقبلة؟ وما هي القوى المؤثرة الرئيسية التي ستشكل هذا المستقبل؟ وأي من التطورات والاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الحالية سيستمر، وأي منها سيحدث فيه تغير مفاجئ؟ وما هي تأثيرات هذه التغيرات على الإنسان والبيئة؟ وأخيراً، ما هو الدور الذي يمكننا أن نقوم به لتشكيل هذا المستقبل؟
جميع هذه الأسئلة مطلوب الإجابة عليها إذا أردنا أن يكون لنا دور في تحديد قدر مجتمعاتنا ومنطقتنا في مجال رفاه وصحة الإنسان والحفاظ على البيئة من خلال اتخاذ سياسات وإجراءات تنقلنا من وضعنا الحالي إلى المستقبل الذي نرجوه لنا وللأجيال التي من بعدنا، أو على الأقل، التأقلم والتكيف مع التطورات المستقبلية التي يمكن أن يمر بها العالم وتقليل تأثيرات انعكاساتها السلبية علينا أو تفاديها، بل والأفضل من ذلك التعرف على الفرص المستقبلية والاستفادة منها في عملية بناء مستقبل صحي وبيئي زاهر للمنطقة.
ويتطلب ذلك التعرف على القوى المحركة في مجتمعاتنا من سياسات اجتماعية واقتصادية وسياسية وبيئية، سواء كانت سياسات داخلية نقوم نحن باتخاذها، أو سياسات خارجية تفرض علينا من الخارج، ومعرفة اتجاهات التطور الماضية لها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان والبيئة، ومن ثم النظر لما يمكن أن يؤديه استمرارها أو تغييرها على المدى البعيد، وتصور المستقبل الممكن الوصول إليه في حال استمرار اتباع السياسات الحالية والتكهن فيما إذا كانت هذه السياسات كافية لتؤدي إلى المستقبل المأمول، اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً.
ولكن، وكما نعلم، فإن تخيل ما يمكن أن يحدث في الأعوام القليلة المقبلة، عملية صعبة ومعقدة جداً، فكيف لنا أن نتخيل ذلك للخمسة وعشرين سنة أو الخمسين سنة المقبلة، وخصوصاً في منطقة مثل منطقة الخليج العربي التي تمر بمرحلة انتقالية تتصف بعدم الاستقرار وحداثة الدولة وعدم مأسسة دور المجتمع المدني وضعف مشاركته في عملية صنع القرار، بالإضافة إلى تعرضها المستمر للتجاذبات والنزاعات الإقليمية والدولية ووقوعها في بؤرة مصالح الدول الكبرى المهيمنة على العالم.
وعلى رغم أنه قد يكون من السهل نسبياً تصور استمرار بعض التطورات أو الاتجاهات الحالية في المستقبل القصير المدى بسبب علمنا بأن معظمها هو نتيجة خيارات وقرارات سابقة، وبالإضافة إلى أنه من غير المحتمل أن تستمر هذه الاتجاهات بالقوة نفسها لعقود بكامل قوتها من دون تغيير، فإن قراءة التاريخ بتمعن تدل على أنه من الممكن أن تحدث تغيرات وتداعيات مفاجئة في فترات وجيزة جداً من الصعب التنبؤ بها، فقد تؤدي مواجهة عسكرية مفاجئة في المنطقة إلى تدمير وتدهور بيئي قد يستغرق حدوثه تحت الظروف الاعتيادية عشرات السنين، مثل ما حدث من تدمير بيئي أثناء حروب المنطقة الثلاث. ويزيد من تعقيد العملية أن الخيارات والقرارات التي ستتخذ اليوم ستبدأ نتائجها في الظهور بعد عدد لا بأس به من السنوات، مثل برامج إعادة تأهيل الأنظمة البيئية المتدهورة (المياه، الأراضي، الثروة السمكية...) التي قد تستغرق عشرات السنين.
وفي وجه كل هذه الصعوبات، لجأ المجتمع العلمي إلى استخدام منهجية السيناريوهات التي تعتبر حالياً من أفضل منهجيات الدراسات المستقبلية المستخدمة كأداة عملية للتغيير ومساندة التخطيط المستقبلي في مجال البيئة. وهي عبارة عن صور لبدائل تصف كيف من الممكن أن ينكشف أو يتجلى عليها المستقبل وتبين الممرات المستقبلية التي من المحتمل أن يسلكها مجتمع/ منطقة ما وتأثيرات ذلك على الإنسان والبيئة، وذلك بناءً على افتراضات معينة عن المتغيرات الرئيسية واتجاهات التغيير في هذا المجتمع/ المنطقة، مثل النمو السكاني والاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، والسياسات الاجتماعية -الاقتصادية والبيئية، ودور القطاع الخاص، وتقدم مؤسسات المجتمع المدني ونمو الوعي البيئي.
سيتم في هذا المقال والمقالات القادمة محاولة استكشاف المستقبل من خلال عدسة البيئة والتنمية، والتركيز على نتائج وتبعات الأساليب والخيارات المختلفة التي يمكن اتباعها أو تبنيها من قبل مجتمعات المنطقة لضمان مستقبل رفاهية الإنسان الخليجي والبيئة الطبيعية التي يعيش فيها. وسيتم، بشكل مختصر، استعراض أربعة سيناريوهات رئيسية تمثل صوراً متباينة للمستقبل في المنطقة، وذلك بناءً على افتراضات معينة عن المتغيرات والقوى المؤثرة الرئيسة في المنطقة. وفي كل سيناريو من السيناريوهات الأربعة سيتم بشكل مختصر رسم طريق مستقبلي على مدى جيلين قادمين (50 سنة)، يقدم صورة قصصية عن كيفية تطور عالمنا خلال هذه الفترة. وتتأمل هذه السيناريوهات الكثير من المواضيع والقضايا الاجتماعية التي تتقاطع مع الحوادث وتؤثر فيها، وتعرض تعاقباً لسلسلة من الحوادث والصورة النهائية لكل منها، لتعطينا فكرة عن الخيارات المطلوبة للوصول إلى صورة مستقبلية زاهرة لنا. وتهدف هذه السيناريوهات إلى المساعدة في التفكير بعناية في كيفية التوجه نحو حوادث معينة أو تلافيها، إذ تحمل هذه السيناريوهات التي تصف حال البيئة في طياتها وبين جوانبها الخيارات والسياسات المجتمعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وسيتم في هذه المقالات تقديم السيناريوهات البيئية للمنطقة التي تم إعدادها ضمن مشروع الإصدار الرابع لسلسلة تقارير الرؤية المستقبلية للبيئة العالمية، أو ما يسمى بمشروع «جيو 4» التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والمزمع نشره في بداية العام 2007. وتم وضع الإطار العام للسيناريوهات بحيث تتكون من أربعة سيناريوهات تمثل الطيف الواسع الذي من الممكن أن يتشكل فيه المستقبل، معتمدة بشكل رئيسي على «سيناريوهات العالم المستقبلية» التي قام بصوغها «فريق السيناريوهات العالمية» بمعهد ستوكهولم للبيئة ببوسطن بالولايات المتحدة الأميركية بمناسبة حلول الألفية الثالثة. وتم تحديد المدى الزمني للسيناريوهات المستقبلية بخمسين عاماً، وتأخذ في الاعتبار القوى المحركة الرئيسية التي تؤثر على البيئة في العالم من قوى وتطورات ديموغرافية، واقتصادية، وعلمية - تقنية، واجتماعية - ثقافية، وبيئية، ومؤسسية -حاكمية. وسيتم في هذه المقالات تقديم السيناريوهات من خلال التعرض لخمس قضايا بيئية رئيسية في المنطقة وتتبع حالتها في هذه السيناريوهات الأربعة، وهي ندرة المياه وتدهور نوعيتها، وتدهور الأراضي وتصحرها، وتدهور الموارد الساحلية والبحرية، وإدارة البيئة الحضرية، والسلم والأمن وتأثيراتهما على الإنسان البيئة.
وتم تصميم السيناريوهات الأربعة الرئيسية كالآتي: السيناريو الأول هو سيناريو «السوق أولاً»، يتصور عالماً تكون فيه التنمية خاضعة لقوى السوق وتنتشر فيه العولمة وقيم وثقافة المجتمعات الصناعية بشكل تدريجي، ويكون التطور فيه طبيعياً من دون مفاجآت، وتترك المشكلات الاجتماعية والضغوط على البيئة لمنطق الإصلاح الذاتي لقوى السوق وتنافسها. والسيناريو الثاني هو سيناريو «السياسات أولاً»، وفيه تتدخل الحكومات بشكل قوي وفعال وبتنسيق عال لتحقيق عدالة اجتماعية أكبر وحماية البيئة، ويشترك هذا السيناريو مع سيناريو السوق في استمرار المؤسسات والقيم وسرعة نمو الاقتصاد العالمي وانتشار العولمة، ولكن يتم في هذا السيناريو تبني مبدأ الاستدامة ووضع الاستراتيجيات المطلوبة لتحقيقها.
أما السيناريو الثالث فهو سيناريو «الأمن أولاً»، ويتصور عالماً مليئاً بالتناقضات يسوده عدم المساواة والصراعات، تتدهور فيه القيم والأخلاق الاجتماعية والاقتصادية، ويسود فيه التصدي الدكتاتوري لتهديدات الانهيار، ويمثل نخباً تعيش في مقاطعات محمية (سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي)، وتحمي امتيازاتها بواسطة التحكم في الغالبية الفقيرة وتستغل وتدير الموارد الطبيعية سواء تلك التي تمتلكها أو يمتلكها الآخرون لصالحها، ويكون الوضع خارج المقاطعات المحمية قمعاً وتدميراً للبيئة ناشراً الفقر والبؤس للغالبية. أما السيناريو الرابع فسمي بسيناريو «الاستدامة أولاً»، ويتم فيه توفير الحلول لتحديات الاستدامة (التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية) ويتم الوصول إليه عن طريق تغيير جذري في القيم والمؤسسات وانتشار اللامركزية والديمقراطية والشفافية، ومبني على وضع أهداف بعيدة المدى واعتماد التخطيط الاستراتيجي الشامل لتحقيقها.
المقال القادم سيستعرض السيناريو الأول من هذه السيناريوهات الأربعة والمسمى بسيناريو «السوق أولاً»
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1332 - السبت 29 أبريل 2006م الموافق 30 ربيع الاول 1427هـ