روى خالي لأمي المرحوم عبدالله «مقامته الإبريقية» فقال: ورد عن «الأولين» أن أحدهم أصابه جرح، ومع الأيام تقرح بعد مداواته إيذاناً بالاندمال، وفي هذه اللحظة طفق صاحبنا - بحسه الفضولي - يعبث ويعبث حتى نكأ الجرح فعاد للتورم، وتكررت القصة مرة أخرى، فما ان يوشك الجرح على الالتئام حتى يثيره صاحبنا، لتبدأ دورة المستشفيات وتنتهي إلى جرح مفتوح... تحير الأطباء في معرفة سر هذه الحالة النادرة الغريبة، جرح يتحدى قدرة «الدخاتر»!
ويوماً ما علمت الأسرة بحكيم خبير، انطلقت إليه فباشر مهمته في غرفة الفحص، وفيما هو يعالج الجرح رفع صوته ممسكاً رأس المريض: «حجي، ما هذا الذي ينبت لك؟»، ذعر المريض! قال له الطبيب بثقة: «إني أرى أن قرنين بدآ ينبتان على جانبي رأسك... هون عليك، اغد إليّ بعد أسبوعين»، وفعلاً ما ان عولج المريض حتى انطلق إلى منزله حاملاً في كل أحواله مرآة اشتراها بغرض المتابعة.
ومع شمس كل صباح كان «الحجي» يتحسس بأصابعه جانبي رأسه، ولفرط الاحتكاك المتواصل بان بياض رأسه، فتيقن أن القرنين بدآ في النمو فعلاً كما قال الطبيب، وبعد الأسبوعين حانت لحظة الكشف ومتابعة أخبار «القرنين»، وكانت المفاجأة: شفي الجرح تماماً، إلا أن القرنين لم تنموا، فعرف المريض أنها حيلة ذكية من الطبيب الحاذق لشغله عن جرحه.
أعتقد أن هذه القصة تجري أمامنا يومياً، فـ «استراتيجية القرون» تنجح في كثير من الأحيان في شغلنا عن قضايانا الأهم، وربما هي استراتيجية تتبعها كثير من الدول العربية، بل وحتى الأجنبية، ويمكننا استخدامها في كثير من الموارد، بل نحن نستخدمها حقاً.
فعلى الصعيد المحلي، كلما عرضت قضية على الرأي العام أو النواب وغدت ملحة وبدأت روائح الفساد الكريهة تنبعث منها لتتوجه الأصابع إلى فلان وفلتان وغدا وقتها الرأي العام مصراً على كشف الحقيقة وفضح المتلبسين فيها عله يصل إلى مبتغاه، وجدنا أن قضية أخرى مثيرة للجدل تطرح لتنسينا الأهم، والقضايا البديلة تنتخب من العيار الثقيل، تخلط الحابل بالنابل.
والغريب أننا ننساق بلا إرادة كأخينا المريض إلى متابعة القضايا التي ندفع إليها بالتهويل والاستعظام، فيتشكل في كل مرة واقع جديد يستثمره الفاعل الذي رتب حساباته المسبقة وفق ما أراد، فيا ترى إلى متى نصبح مستغفلين لتمرر علينا في كل مرة الكذبة؟ ويا ترى هل سنستخدم المرآة لننظر إلى ما يجدر بنا فعله لا ما نجرجر إليه
العدد 1330 - الخميس 27 أبريل 2006م الموافق 28 ربيع الاول 1427هـ