التدمير البيئي المستمر الذي يتعرض له خليج توبلي من قبل انسان الأرض، وابنها الذي تربي ونهل من مواردها وخيراتها، هو أحد وجوه الخلل والاستنزاف الدامي الذي يطول ثروتنا وبيئتنا الساحلية، ويهدد بوقوع خطر حقيقي لأهم البيئات الطبيعية الغنية والمعروفة بتنوعها الفريد والمدهش بازدهار الكائنات البحرية والنباتية التي لا تتوافر في مناطق كثيرة من العالم. وفيما تستمر عمليات الدفان غير المنظم وإلقاء المخلفات والقاذورات ومياه المجاري في الخليج وما تقوم به مصانع غسيل الرمل البحري وعمليات تخريب البيئة المتعمدة، تظل حال السكون واللامبالاة تخيّم على الجميع، ويبرز المشهد المروع المخيف المتمثل بقتل الطبيعة «بدم بارد» من دون أن نتحرك بفاعلية لإيقاف هذا التعديات الصارخة على الإرث التاريخي الوطني والثروة البحرية المهددة بالاندثار.
وقضية خليج توبلي عرضت كثيرا في الصحافة من دون تحرك حقيقي ناجع من قبل الجهات الحكومية أو الشعبية لإيجاد خطة استراتيجية لحماية بيئات الخليج واستثماره اقتصاديا وسياحيا، فما هو حاصل الآن أن عمليات الدفان العشوائية وإلقاء مخلفات الهدم والبناء، قلصت مساحة الخليج إلى النصف منذ الخمسينات (حوالي 12 كيلومتر مربع)، وقضت تماما على المساحات الساحلية المنتجة لأنواع كثيرة من الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية، إذ أثرت هذه العمليات بشكل مباشر وسريع على كميات الأسماك والقشريات الموجودة في الخليج، وأدت إلى انحسار الصيد تماما وهروب الأسماك إلى خارج الخليج بحثا عن بيئة مسالمة لا تمتد لها أيادي المخربين.
ويعد الخليج من أهم البيئات التي تختضن شجر القرم، أحد مواقع حضانة وتغذية للكثير من الكائنات البحرية مثل الأسماك والقشريات كالربيان والقباقب والطيور، إذ يتصدر الخليج (سابقا) أحد المراتب الأولى في انتاج الروبيان على مستوى الشرق الأوسط. إلى جانب ذلك توجد في الخليج أنواع كثيرة من الطيور المهاجرة على مدار السنة التي يستغرب وجودها في سواحل البحرين، وهي تضيف إلى طبيعة الخليج منظرا ساحرا وجذابا.
وتظل الأسئلة عن هذا الموضوع قائمة ومستفزة... وتثير الحيرة والذهول والاستنكار من الجمود الذي يكتنف الساحة الوطنية لمعاجة موضوعات لا تقل أهمية عن القضايا الوطنية الأخرى. هل هناك نقص وتراجع في درجة الوعي البيئي الساحلي لدى المواطنين والمسئولين بأهمية مثل هذا الخليج بيئيا واقتصاديا واجتماعيا وسياحيا؟ هل تسرب اليأس إلى نفوسنا ونحن لا نستطيع ايقاف عمليات الدفان والتدهور البيئي الذي يعاني منه الخليج؟ هل نحن جادين فعلا لإيجاد الحلول من أجل الحفاظ على ثرواتنا الطبعيية واستثمارها بالشكل الذي يضمن استمرار عطائها وبقائها من دون تلويث أو تناقص لمكوناتها البيئية الخصبة؟ وهي أسئلة ربما أصبحت (مملة) لدى البعض وغير مجدية.
والمستغرب أن الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية، لم تحرك ساكنا لقضية الخليج، والمفترض أن تكون من ضمن أولوياتها واهتماماتها الكبرى. ومازلنا نعول عليها الكثير لإحداث تغيير جذري على مستوى التعامل مع قضية الخليج.
وربما يوحي الأمر أن هناك نقصا في التشريعات القانونية لإيقاف عمليات التدهور البيئي المتعمد التي يعاني منها خليج توبلي طيلة السنوات الماضية، فهل القوانين قاصرة عن احتواء ما يجري في الخليج من تعديات صارخة على النظام البيئي الساحلي؟
واجابة السؤال الأخير ستكون مفاجأة. إن هناك خللا في تطبيق القوانين والقرارت التي صدرت في الفترة الماضية، فلا يوجد التزام وتطبيق من الجهات التنفيذية والمسئولة في الحكومة لحماية بيئة الخليج والحفاظ عليه من العمليات التدميرية المتمثلة في الدفان غير المنظم والقاء المخلفات والصيد الجائر. هناك سلسلة من القوانين في هذا الصدد بدءا من الإعلان الحكومي في العام 1942 بمنع أخذ الطين والقرم من الخليج، ومرسوم بقانون رقم (3) لسنة 1975 ومرسوم بقانون رقم (16) في العام 1989 الذي ينص على منع إلقاء المخلفات في السواحل، وقرار مجلس الوزراء في العام 1995 الذي يمنع الدفان والتعمير في خليج توبلي إلى قانون حماية الحياة الفطرية الصادر في العام 1995 الذي يحدد مناطق المحميات الوطنية والحفاظ على الحياة الفطرية. جميعها قوانين واضحة وصريحة تعاقب من يقوم بعمليات الدفان والإضرار بالحياة الفطرية. لماذا لا يتم تفعيل هذه القوانين؟ ألا يعد ذلك مخالفة للدستور ويستوجب العقاب؟ لكنه يبدو أنه (لا حياة لمن تنادي).
لا بد من إعلان حال الاستنفار لإنقاذ خليج توبلي وسواحلنا الأخرى في البحرين، ولن يتم ذلك إلا بتكاتف الجهود من قبل جميع الأطراف، وتناول موضوع الخليج باعتباره شأنا وطنيا يطرح في المجلس الوطني وتشكل له لجنة عاجلة لإنقاذه وايقاف الاستنزاف البيئي الذي يحدث له، ووضع استراتيجية وطنية للمحافظة عليه بيئيا ورسم خطة لمعالجة الآثار التدميرية بحيث تعيد تأهيله وتضمن بقاءه واستمراره، وتفعيله اجتماعيا واقتصاديا، واقتراح المشروعات الاستثمارية السياحية المنظمة.
خليح توبلي هو ثروة وطنية، ولا نقبل أبدا أن يتم التلاعب بها والقضاء عليها. أليس من حق المواطنين بل من واجبهم أن يقوموا بحماية ثرواتهم الطبيعية، واعلان الحرب ضد كل من يتعدى على ممتلكات الشعب؟ أليس من حق أهالي القرى المطلة على الخليج وبقية المواطنين أن يستفيدوا من خيراته كمصدر رزق، ويستأنسوا بمنظره الساحر وزرقة مياهه العذبة من دون وجود مياه المجاري أو المخلفات التي تحول البحر إلى مستنقع؟ الخليج بحاجة إلى «إيقاف عمليات التدمير البيئي» التي يتعرض لها، وتفعيل القوانين «المجمدة»
العدد 133 - الخميس 16 يناير 2003م الموافق 13 ذي القعدة 1423هـ