وبما أن كل شيء بدأ قبلنا بزمن طويل، فإننا سنبدأ الحفر في ذاكرة المرض وتوقيعاته على أجساد البحرينيين من هذا الذي بدأ قبلنا بزمن طويل، من دلمون بما هي التاريخ الأبعد المعروف لهذا البلد بحسب ما كشفت عنه التنقيبات الدنماركية في خمسينات القرن العشرين. وبما أن النصوص السومرية - وفي مقدمتها «ملحمة جلجامش» - هي أقدم نصوص يرد فيها ذكر دلمون، فبالإمكان أن تكون هذه النصوص هو نقطة انطلاق في هذه المهمة. وفي هذه النصوص كانت دلمون البلد المضيئة والمباركة والطاهرة وأيضاً البلد الذي «لا ينعق فيه الغراب، والأسد لا يفترس، والذئب لا يخطف الحمل، لا أحد يقول: عيناي تؤلماني، لا أحد يقول: رأسي يؤلمني، لا يقول العجوز: إني عجوز».
كل شيء بدأ قبلنا، وفي البدء كانت دلمون، وفي الأساطير السومرية ارتبطت دلمون بنشأة العالم، ووصفت بأنها الأرض التي باركتها الآلهة وجعلت منها المكان المنشود للحياة الأبدية لأن «في دلمون تطيب السكنى في مساكنها». وتذكر أسطورة الخلق السومرية أن أنكي قام «بتنظيف وتطهير بلاد دلمون، ووضع الإلهة ننسيكيلا مسئولة عنها... وجعل لها مستنقعات لكي يؤكل سمكها، ووهبها النخيل لأراضيها المزروعة لكي يؤكل تمرها». وفي أرض كهذه لا وجود للمرض ولا لأي نوع من أنواع النقش المؤلمة أو المميتة، فالأسد لا يفترس، والذئب لا يخطف الحمل، ولا أحد يشكو من ألم العين والرأس أو الشيخوخة. وهنا كان البحر بمثابة «حزام صحي» يلتف حول هذه الجزيرة من جميع الجهات، ويحميها من كل الأمراض والأوبئة. وبهذا كانت دلمون التجسيد الأسمى للفردوس الأرضي.
هذه إذاً هي البداية، والبداية عادة تكون بلا ذاكرة، لأن الذاكرة تبدأ حين نجتاز عتبة البدايات. وعندئذ تتحول هذه البدايات إلى محتوى بحاجة إلى الحفظ والأرشفة. وتتعمق هذه الذاكرة حين ترتبط بالألم والعنف والخراب، بل إن الأمم - كما يقول جاك دريدا - تبدأ في خضم العنف. ومن هكذا عنف ابتدأت سيرة المرض في البحرين، وانطلق سهم هذه الذاكرة منذ أن خربت دلمون، ونبذت هذه الجزيرة أوصافها السومرية الأسطورية كأرض الخلود المضيئة والمطهرة والنقية والمباركة. واحتفظت بتلك المستنقعات التي جعلها أنكي فيها، والنخل الذي وهبه إياها، إلا أن هذه المستنقعات صارت موطناً للبعوض، فانتشر فيها مرض الملاريا، ومن أجل مقاومة الإصابة بهذا المرض تقوست كريات الدم الحمراء في أحفاد الدلمونيين، وأخذت شكل المنجل (المحش) المهيب الذي حصد النبات والبشر معاً. من المعروف أن لفقر الدم المنجلي علاقة تاريخية بمرض الملاريا إذ حدثت طفرة أو تغير في تركيبة الجينات « المورثات» كوسيلة طبيعية لمنع غزو الجسم بميكروبات الملاريا؛ ولهذا السبب فإن «المصاب بالأنيميا المنجلية أو حامل العامل الوراثي للمرض تكون لديه مقاومة ضد الإصابة بالملاريا، ومع مرور الزمن كان مرض الملاريا يقضي على الأشخاص الذين لا يعانون من مرض الأنيميا المنجلية؛ لأن طفيل الملاريا يفضل أن يعيش على الدم السليم، وهكذا ترك مرض الملاريا الأشخاص الذين يعانون من فقر الدم المنجلي أو يحملون العامل الوراثي أحياء وبأعداد كبيرة» (حقائق عن فقر الدم المنجلي، شيخة سالم العريض، ص6).
ومن هذه المستنقعات تأسست ذاكرة أعرق مرض عرفته البحرين الكبرى (أوال، والقطيف، والإحساء): فقر الدم المنجلي (السكل سل)، هذا الإرشيف العريق الذي احتفظ بذكرى مستنقات أنكي ونخيله ومنجلها المهيب وتوقيعات اسمه العتيد على صفحات كريات الدم الحمراء فينا. ومن هذه اللحظة ابتدأت ذاكرة المرض في البحرين، وتعمقت هذه الذاكرة بقوة، وصار المنجل المهيب يوقع اسمه على الأجساد كما لو كان وشماً لا يمكن محوه، وعلى المرء أن يسلمه، بكل أمانة، لأبنائه وأحفاده.
الطبائع الأسطورية ومستنقعات انكي
ويبدو أن دلمون نبذت طبائعها الأسطورية حين تعكرت مستنقعات أنكي، وحين امتدت هذه الجزيرة إلى اليابسة. في هذه اللحظة تحولت دلمون إلى «البحرين الكبرى» التي يحددها القدماء كناحية بين البصرة وعمان، وتشمل جزيرة أوال والقطيف والإحساء. وصاحب هذه النقلة في التاريخ والجغرافيا نقلة أخرى على صعيد المرض وذاكرته وتوقيعاته على أجساد البحرينيين وفي دمائهم. فحين أتى زكريا القزويني (ت 682 هـ 1283م) في «آثار البلاد وأخبار العباد» على ذكر البحرين قال إنها « ناحية بين البصرة وعمان على ساحل البحر» وذكر اشتهارها باللؤلؤ ومغاصاته، ثم عقب على ذلك بقوله: «ومن سكن بالبحرين يعظم طحاله وينتفخ بطنه، ولهذا قال الشاعر:
ومن سكن البحرين يعظم طحاله
ويعظم فيها بطنه وهو جـائع»
(ص78). هذه - فيما يبدو - بداية التكشف التدريجي لأعراض المرض العريق في البحرين الكبرى: تضخم الطحال وانتفاخ البطن. وهذه أعراض اعتبرها الجاحظ من «خصائص البلدان»، وذكرها في كتاب «الحيوان» على لسان العامة حيناً، وعلى لسان «ثقة التجار الذين نقبوا في البلاد» حيناً آخر، وجرت معه في مواضع أخرى مجرى الأمثال كما هو الشأن حين «يقال في حمى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وجرب الزنج». والحق أن الإشارة إلى تضخم طحال من سكن البحرين إشارة متكررة في مؤلفات القدماء واعتبرها ابن خرداذبة في «المسالك والممالك» من «طبائع البلدان»، وذكر ابن عبدالمنعم الحميري في «الروض المعطر في خبر الأقطار» أن البحرين بلدة «مخصوصة بتعظيم الطحال». وكذا ذكر أبو منصور الثعلبي في كتابه «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» اختصاص أهل البحرين بتعظيم الطحال وانتفاخ البطن، ونقل عن الجاحظ قوله: «من أقام في البحرين مدة ربا طحاله، وانتفخ بطنه؛ كما قال الشاعر:
ومن يسكن البحرين يعظم طحاله
ويغبط بما في بطنه وهو جائع»
أما ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» فيعقد مشابهة بين عمان والبحرين في أن كلتا البلدتين «وبية (أي وبيئة) وأهلها مصفرة وجوههم مطحولون». هذه ذاكرة جماعية للمرض نشترك فيها نحن كبحرينيين مع أهل القطيف والإحساء وكذلك مع أهل عمان بحسب ابن قتيبة، وهي ذاكرة تشبكنا معاً، وتوقيعات باسم مرض عتيد يذكارنا باتصالنا القديم الذي انقطع وما انقطعت توقيعاته. وصار، كأي مرض جماعي، ينقش آثاره على هذه الأجساد التي كتب عليها بحكم «طبائع البلدان» أن تتوارث المرض كما تتوارث بقية صفاتها الوراثية سواء بسواء.
القطيف وطحال 1913
تذكر آن هاريسون أن الطبيب والمبشر في بعثة الإرسالية الأميركية بالبحرين بول هاريسون، زار القطيف في العام 1913، ووجد أن غالبية سكانها كانوا «مصابين بتضخم الطحال، وفقر الدم، وهم ذوو وجوه شاحبة كالأشباح. كان المرض بادياً على كل الوجوه» (بول هاريسون، ص58). وهذا تشخيص دقيق ينطبق على سكان أوال بقدر ما ينطبق على سكان القطيف والإحساء؛ لأن من يسكن البحرين يعظم طحاله وينتفخ بطنه ويصفر وجهه، هذا ما قاله بيت الشعر المجهول، وهذا ما صدق عليه القدماء من أدباء ومؤرخين وجغرافيين.
لا يعرف بالضبط متى انفكت أوال عن رباط البحرين الكبرى، ومتى اختصت وحدها بهذا الاسم. يرى البعض أن هذا الانفكاك حصل إبان الاحتلال البرتغالي للبحرين في القرن 16، أما، المؤرخ ووزير الشئون الإسلامية الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، فيذهب إلى أن جزر البحرين اختصت بهذا الاسم عن سائر مناطق البحرين الكبرى أثناء حكم الأتابكة لها، وحين استولى حاكم شيراز آنذاك «أبوبكر سعد بن زنكي» على البحرين (أوال) وانتزعها من العيونيين الذين تفكك حكمهم عن الإحساء والقطيف وأوال. ويشير إلى أن الأتابكة حكموا جزر البحرين (أوال) بصورة مباشرة وغير مباشرة نحو 70 عاما بدءاً من 1238.
وليس بإمكاننا الجزم بصحة ما ذهب إليه الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، إلا أن هناك مؤشرات تؤكد أنه أقرب إلى الحقيقة من الرأي الأول. والمؤشرات التي بين أيدينا لا تحدد العام 1238م كتاريخ انفصال أوال عن البحرين الكبرى، إلا أنها تتحدث في العام 880هـ/ 1475م عن أوال كجزيرة اختصت باسم البحرين من دون سائر الأقاليم. وجاءت هذه الإشارة من قبل الربان العربي المشهور أحمد بن ماجد، أسد البحار في كتابه «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد». ولهذا الكتاب أربع نسخ معتمدة، ومنها نسختان بحرينيتان، إلا أن محقق الكتاب إبراهيم خوري، لم يتمكن من الحصول إلا على نسخة بحرينية واحدة، لأن النسخة الثانية «أصبحت في الولايات المتحدة الأميركية». أما النسخة الأولى فيملكها علي محمد التاجر وسماها المحقق التاجرية، وهي، كما يذكر المحقق، أجود النسخ الثلاث، ولهذا جعلها الأصل الأول المعتمد لتحقيق الكتاب.
في هذا الكتاب يربط أحمد بن ماجد بين أوال وزنجبار، ويذكر أن الأوائل قالوا في تواريخهم: «جزيرتان وخيمتان، إحداهما بأقصى الجنوب، وهي هذه الجزيرة (يقصد جزيرة زنجبار)، والأخرى بأقصى الشمال، وهي البحرين المسماة أوال، خصوصاً عند نزول الشمس ببرج الميزان، تبتدئ فيها الحمى والتوعك عند اصفرار الترنج» (كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، ص207).
هذه إشارة بالغة الخطورة، وينبغي أن نتعامل معها بوصفها علامة ذات دلالة مزدوجة فهي، من جهة، تشير إلى اختصاص أوال باسم البحرين من دون سائر المناطق الأخرى، ومن جهة ثانية فهي تؤكد اتصال «الإرشيف المرضي» لأوال بإرشيف المرض بإفريقيا التي ينتشر فيها مرض فقر الدم المنجلي.
وأول ما يلفت في إشارة ابن ماجد أنها بمثابة قلب جذري لأسطورة دلمون كفردوس أرضي. ولمعرفة حقيقة هذا القلب علينا أن نأخذ كلمة «وخيمة» بدلالتها الحرفية في لسان العرب إذ جاء أن «بلد وخيم أي غير موافق في السكن. وشيء وخيم أي وبيء. وأرض وخيمة أي لا ينجع كلأها». وبهذا تصبح «البحرين المسماة بأوال» جزيرة موبوءة ولا تصلح للسكن على خلاف ما جاء في الأساطير السومرية من أن «دلمون يطيب السكنى في مساكنها»! إذ لا أحد يشكو من ألم العين والرأس والشيخوخة!
دلمون وبرج الميزان
ويشير أحمد بن ماجد إلى أن جزيرة أوال تصبح وخيمة حين تكون الشمس في برج الميزان، أي في وقت الشتاء موسم اصفرار الترنج والأجساد أيضاً. ومن المعروف أن تعرض الجسم للبرد يتسبب في نوبات الألم عند المصابين بفقر الدم المنجلي، ولهذا ينصح الأطباء دائماً بحفظ الجسم دافئاً. وبوضع هذه الإشارة إلى جوار إشارة القدماء عن «طحال البحرين» وانتفاخ بطن أهلها واصفرار وجوههم سيتبين لنا أن ما شاهده هؤلاء لم يكن غير أعراض ومضاعفات لمرض عتيد في هذه الجزيرة، فهذه هي توقيعات فقر الدم المنجلي على أجساد أهل هذه الجزيرة. ومن المعروف أن من بين أعراض هذا المرض: انتفاخ مفاجئ وحاد في البطن، وتضخم شديد ومفاجئ في الطحال، وارتفاع درجة حرارة المريض، وانتفاخ مؤلم في اليدين والرجلين، وشحوب مفاجئ في الوجه، وزيادة حادة في اصفرار الجسم. وبهذا يكون موسم اصفرار الترنج هو نفسه موسم اصفرار أجساد أهل هذه الجزيرة، وشحوب ألوانهم، وابتداء الحمى فيهم مع ما يرافقها من «توعك» وآلام حادة في اليدين والرجلين والبطن والظهر.
بعد هذا يمكننا العودة إلى النسخة البحرينية من كتاب أحمد بن ماجد، وهي النسخة التي جعلها محقق الكتاب الأصل الأول المعتمد في التحقيق. في هذه النسخة تحريف واضح في اسم أوال، وهذا تحريف لا وجود له إلا في النسخة البحرينية، وهو ما حمل المحقق على تصحيحه بما جاء في نسخة المكتبة الوطنية بباريس ونسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق. وجاءت العبارة المحرفة في النسخة البحرينية كالآتي: «وهي البحرين المسماة بوابل» (هامش 9، ص207). فهل كان صاحب النسخة البحرينية وراء هذا التحريف؟ وهل ينطوي تحريف أوال إلى وابل على دلالة ما؟ وهل هو تعبير عن رغبة خفية من صاحب النسخة في دفع تهمة الوخامة والوباء عن موطنه؟ ربما، إلا أن هذا التحريف أضعف من أن يدفع توقيع مرض بهذا العناد، وحتى لو حرفت أوال، فإن اسم البحرين الذي يشبك أوال والقطيف والإحساء أكثر رسوخاً من هذا التحريف. فما فرقه تحريف النسخة البحرينية جمعه اسم البحرين واسم المرض وتوقيعاته منجله المهيب الذي جمع بين سكان البحرين الكبرى. واللافت حقاً أن فقر الدم المنجلي يمثل إحدى المشكلات الصحية المزمنة في البحرين كما في القطيف والإحساء. ويذكر في هذا الشأن أن عدد المصابين والحاملين لهذا المرض في المملكة العربية السعودية يبلغ 1445067 مريضاً. وتؤكد الدراسات والبحوث العلمية أن المنطقة الشرقية هي أكثر المناطق التي ينتشر بها فقر الدم المنجلي، إذ تبلغ نسبة حاملي المرض ما بين 20 و 25 في المئة من السكان. ومن المعروف كذلك أن هذا المرض ينتشر بكثرة في البحرين. وبحسب ما جاء في بعض الدراسات حديثاً فإن نحو 2 في المئة من الأطفال حديثي الولادة مصابون بفقر الدم المنجلي، و11 في المئة حاملون للمرض. وتذكر بعض المؤشرات أن 20 في المئة من السكان في مملكة البحرين يعانون من فقر الدم المنجلي.
هذه النسب المتطابقة أو المتقاربة في عدد المصابين والحاملين لهذا المرض في البحرين والقطيف والإحساء هي أبلغ علامة تشير إلى الهوية القدرية (المرضية) لسكان البحرين الكبرى بين البصرة وعمان، وهي أفدح تركة في ذاكرة المرض في إرشيف هذه المنطقة، وهي أعظم تقويض لأسطورة دلمون التي لا يمرض فيها أحد وتطيب فيها السكنى
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1329 - الأربعاء 26 أبريل 2006م الموافق 27 ربيع الاول 1427هـ