صديق فلسطيني من أهل فتح القدماء قال لي مستغربا: تبين أن الأصدقاء في «حماس» شراهتهم للسلطة أكثر من دأبهم على «التحرير». وما هي إلا بضعة أيام حتى اشتعلت حرب بين حماس والسلطة بشأن «الصلاحيات».
حتى لو أخذنا ذلك التعليق للصديق الفتحاوي بالكثير من الاحتراس، كونه صادرا من أحد «حمائم فتح»، فإن المتأمل في سلوك حماس «الحكومي» يرى أنها قد غاصت في التفاصيل، وخصوصا صراع السلطة، من دون أفق مرجو للخروج من الأزمة المستحكمة في الحكم.
الفرار إلى إيران أو حتى سورية لا يقدم لحماس الكثير غير «العلاقات العامة»، وهي علاقات عامة لا تسمع في الجمهور العربي المحبط أصلا ولا غيره من الجماهير، وهي في النتيجة لا تعطي حماس قدرة على التقدم، بل تضيق عليها سبل المناورة.
طبعا لو كان هناك تفكير سياسي لدى حماس ولدى السلطة أيضا، لكان من الأفضل «تقسيم الأدوار» فيما بينهما، بحيث يأخذ محمود عباس وجه المفاوض وتأخذ حماس وجه المقاوم السياسي، كأي حركة وطنية مقسمة الأدوار موحدة الأهداف. كل خطواتها تبتغى في النهاية تحرير شعبها الذي يرزح تحت الاحتلال ويلاقي أهواله. إلا أن ذلك لم يحصل، ولا يعتقد انه يمكن أن يتم في ظل الأجواء السائدة. ربما لأن صقور فتح أرادوا أن تبقى حماس في «حيص بيص» وبالتالي تسقط أو تسقط (بالتشديد على التاء) من الخارج، فتعود فتح إلى سيرتها الأولى من التحكم إلى الفساد، أو الفشل الذريع لحماس أمام الناخب الفلسطيني الذي ربما يعود من جديد كي «يستغفر» من الخطيئة التي أوصلت حماس إلى الحكم!
قابل ذلك تصور من «صقور حماس» بالبحث عن مخرج خارج البئية الطبيعية. والمخارج قليلة وتضيق مع الأسف باليوم والساعة. فلا المال العربي سيتدفق على حماس، لا بسبب بخل عربي، ولكن بسبب تاريخ طويل من الوعود العربية وعدم الوفاء بها من جهة، وبسبب قلة في الثقة التي تفتقر إليها المؤسسات الفلسطينية من جهة أخرى، هذا الجفاف المالي العربي سيزيده جفافا موقف «الغرب» المعارض من تصور حماس للمعركة السياسية، وهي معركة يمكن أن توصف أنها «معركة في الخارج موجهة لجمهور ذي نبرة عالية، وأقل من معركة في الغرف المغلقة التي تقدم الكثير من التنازلات» هذه الثنائية التي يعرفها العدو قبل الصديق تؤاكل من رصيد حماس، الذي يتنازل معدله كثيرا كونها فقط في السلطة.
قوة حماس وشعبيتها المفترضة كونها حركة شعبية تشتمل على كثير من الشفافية، يمكن أن تستخدمها لتوجيه شعبها بمصارحته بأن الحصار كبير ويضيق، وأن أمامنا تصور يجب أن نتحدث فيه وهو أن الخطوة الأولى في المعركة السياسية هي «الاعتراف بكل ما قامت الحكومات الفلسطينية السابقة بالاعتراف به». كلما قربت حماس إلى الواقع هذا والى إنقاذه، كلما استطاعت النفاذ للتصورات الدولية للحل الفلسطيني، وكلما قربت من طموح الشعب الفلسطيني النهائية، أما الحماس في الخطب، فلم يكن الراحل ياسر عرفات بقاصر عنها، ولكنها أفضت إلى لا شيء تقريبا.
المؤسف أن حماس تكرر أخطاء سابقيها، وهو الإصرار على تصور علني لا يقبل من أطراف عالمية كثيرة وقوية ونافذة في عالمنا، وفي الوقت الذي تشير في الغرف الجانبية إلى إمكان تقديم تنازلات حتى بالخطأ أو ادعاء الخطأ، كما حدث في الرسالة «غير المقروءة» الموجهة من وزير خارجية حكومة حماس إلى كوفي عنان! أو بالتصريحات الأخيرة القائلة ان أطرافا من حماس ستقابل «في الخليج» أطرافا أوروبية!
إذا كان المال لن يأتي بالصورة التي تريدها حماس، فان المقلق أن يضع بعض قادة حماس كل أملهم على الاعتماد على النفس، فقد قال أحدهم: يجب أن نحول فلسطين إلى بؤرة تصدير إلى العالم العربي؟ كيف سيتم ذلك والمعابر محاصرة؟ أليس في مثل تلك التصريحات محاولة للهروب إلى الأمام من دون جدوى.
عدم لقاء وزير الخارجية الفلسطيني بمثيله المصري رسالة يجب أن تقرأ بما تعنيه، وما حدث في الأردن يجب أن يقرأ بما يعنيه، فحماس لا تستطيع أن «تأكل التفاحة وتحتفظ بها في الوقت نفسه».
إذا كان التمويل محدودا والعلاقات مع الخارج تضيق، غير منفذي إيران وسورية، وهما منفذان يئنان تحت وطأة المتابعة الدقيقة من المجتمع الدولي بل هما احوج إلى كل المساعدة.
لعل حماس تعي أن القضية الفلسطينية بسبب موقعها في قلب الإنسان العربي يمكن أن «يتاجر بها» من بعض الأنظمة أو القوى، وقد توجر بها كثيرا في السابق لأغراض بعيدة كل البعد عن تحرير فلسطين، وهي اليوم تستخدم أيضا تحت شعارات فضفاضة من قوى قد لا تكون أكثر إخلاصا من قوى عربية سابقة استفادت لبعض الوقت من القضية.
ينقل الكاتب الأميركي ذو الأصول الهندية فريد زكريا في كتابه «الحرية» الذي أصبح ذائع الصيت، أن المرحوم ياسر عرفات عندما نصحه الرئيس المنتخب بوش وقتها في نهاية عهد بل كلينتون أن يقبل بالمعروض على الطاولة، رد وقال: «لو قبلته لأصبحت حماس في السلطة»! وهذه الأيام تدور وتصبح حماس في السلطة «من دون أن يقبل عرفات بما عرض عليه»! فالبعبع الذي كان يخوف منه أصبح في الحكم أو القفص، وأصبح محاصرا أكثر من ذي قبل!
يبدو أن حماس أمام قياداتها نقاش مهم، وفي وقت قصير يجب أن تتوصل من هذا النقاش إلى نتائج، وهو يتمحور حول محاولة الإجابة على أسئلة مركزية وحاسمة قبل أن تصلها أمراض فتح، وهي واصلة لها لا محالة، إن سارت على الدرب المعلن، فهي غير قادرة إلا على الكف عن عمليات كبيرة في داخل «إسرائيل» لأن ثمنها سيكون فادحا على السلطة الحماسية كونها حكومة شرعية، كما أنها مجبرة على عدم شجب العمليات التي يقوم بها غيرها بما يضعها موضع الاتهام أمام الرأي العام العالمي، خصوصا إن كانت تلك العمليات ضد المدنيين، كما أنها في الوقت نفسه غير قادرة على فتح مسار سياسي معقول أمام جدار الممانعة العربية، والرفض الدولي.
الخيار الآخر هو أن تقوم حرب الأشقاء على أرض فلسطين، وهي حرب تقترب كثيرا وبعجالة على الأرض، يخسر فيها المواطن الفلسطيني (العادي) أكثر مما يخسر حتى من الاحتلال نفسه، ويدفع يوميا من أعصابه وكرامته ودمه الكثير، والكاسب الحقيقي هو الاحتلال الذي يتفرج على مسلسل من الغباء السياسي، الذي يبدو مع الأسف أنه تاريخي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1327 - الإثنين 24 أبريل 2006م الموافق 25 ربيع الاول 1427هـ