لم يسبق أن اجتمعت دور نشر ألمانية على حملة تشكك بالإسلام مثلما يجري منذ أيام، ما يعكس استمرار حال يسميها أطباء النفس «أحاسيس الخوف المرضية» أي (إكسينوفوبيا). ويلعب الإعلام دوراً قيادياً في هذه الحملة، إذ ينشر من دون كلل تصريحات يومية لمسئولين سياسيين يحذرون من خطر الإسلاميين، تارة يشيرون إلى احتمال قيامهم بتفجيرات خلال مباريات بطولة العالم لكرة القدم التي ستستضيفها ألمانيا في الصيف المقبل وتارة يتحدثون عن خطر قيام جماعة إسلامية متطرفة بحيازة القنبلة القذرة. أما الحديث عن تنظيم «القاعدة» فيبدو أنه لا نهاية له طالما استمر وجود أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري وحليفهما في العراق أبومصعب الزرقاوي على قيد الحياة يبرر من وجهة نظر أنظمة غربية التدخل العسكري الأجنبي في العراق مثلما يسهم تهويل دور «حماس» في تبرير العمليات العسكرية الإرهابية التي تنفذها «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني. مقابل هذه الحملة هناك حملة إيجابية جدا عن البابا الألماني بنيديكت السادس عشر سبقها دعم إعلامي ملفت للنظر دافع عن أفغاني اعتنق المسيحية ويعيش اليوم كلاجئ سياسي في إيطاليا علما أن أكثر من بلد أوروبي عرض استضافته. في هذه المرحلة إذ النزاع بشأن البرنامج النووي الإيراني يسهم في استمرار الحرب الباردة بين بلد إسلامي وبلدان غربية، لا تكون مجرد صدفة أن تشتد الحملة المعادية للإسلام في ألمانيا. إذ تستغل أجهزة إعلامية معروفة بمواقفها المعادية للإسلام كل حدث للإساءة للإسلام. وهكذا نشرت مجلة «دير شبيغل» تقريراً واسعاً اتهمت فيه أئمة المساجد في الدول الإسلامية بالدعوة للعنف ومعاداة الغرب المسيحي. كما شغلت صحيفة «بيلد» الشعبية الواسعة الانتشار الرأي العام الألماني في جريمة شرف وقعت قبل عام في برلين، إذ أقدمت أسرة كردية تركية على قتل ابنتها التي انشقت عنها وقررت أن تعيش نمط الحياة الغربية. كل هذه الأمور أسهمت ولاتزال تسهم في تعزيز حال الهستيريا تجاه الإسلام التي تهيمن على غالبية الألمان بما فيها أوساط سياسية واجتماعية ودينية وثقافية.
ويرى إبرهارد زايدل وهو كاتب مختص بشئون المهاجرين أنه كان بالإمكان على امتداد سنوات طويلة مضت توجيه الكثير من التهم للمواطنين الألمان ما عدا تهمة إضمار العداء للإسلام. فأحاسيس الخوف المرضية (إكسينوفوبيا) في غضون الثمانينات والتسعينات لم تخالج مشاعرهم ضد المسلمين بل استهدفت مواطنين من إفريقيا وتركيا وبولنديين وعرباً. فالنمط الألماني من العنصرية قام على حواجز عرقية وأخرى ثقافية شوفينية. ولم يلعب الدين دورا في هذا السياق إلا في حال معاداة السامية. غير أن الأمور بدأت تتغير سلبا بعد وقوع حوادث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول العام 2001 حين توافرت أمام المشككين فرصة لشن حملة على الإسلام فصرفوا النظر عن أن الهجوم نفذته جماعة لا تنوب المسلمين كافة وبالتأكيد ليس باسم الإسلام. على رغم ذلك يمكن القول إن أحداث 9/11 لم تقنع غالبية الألمان بصفة خاصة بما حرض عليه المشككون فقد كانت البلدان الإسلامية في طليعة الذين نددوا بالهجوم على الولايات المتحدة. لكن هذه كانت مجرد جولة استغلها المشككون والمحرضون إذ ما حصل لاحقا كان جولات جديدة. فقد بدأت أجهزة إعلام معروفة بمواقفها العدائية للإسلام في التحذير بين فترة وأخرى من أن ألمانيا على قائمة «القاعدة» وراحت تشعر الألمان بالخطر المداهم تارة احتمال انفجار قنبلة قذرة وسط مدينة برلين وتارة شن هجوم بالسلاح الكيماوي على محطة للقطارات وغيرها من سيناريوهات الرعب التي ساهمت في زرع الخوف في نفوس الألمان.
إن نجحت حملة المحرضين بشيء فإنها نجحت في رسم صورة سلبية للغاية عن الإسلام والمسلمين عند الألمان. فمقتل المخرج الهولندي تيو فان جوخ في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 2004 على يد متطرف إسلامي لم يفرز فحسب في هولندا المجاورة لألمانيا حالاً من الهستيريا الأخلاقية - على حد وصف الكاتب الهولندي جيرت ماك - لاشتعال نيران الخوف المرضي حيال الإسلام على نحو بالغ السرعة. والاستياء من مقتل فان جوخ ولّد في ألمانيا جدلا لا حدود له متّسماً بطابع هستيري، علماً أن هذا الجدل لم يتعرض إلى الإساءة التي سببها فان جوخ للإسلام وتهيئته مقتله بنفسه بتحديه المتطرفين الإسلاميين الذين لا أحد في أوروبا ينكر اليوم وجود شبكة واسعة لهم على الأرض الأوروبية.
منذ العام 2005 بات ينظر إلى المسلمين على وجه العموم كما لو كانوا يشكلون خطرا على السلام الداخلي. واتضح وكأن المسلمين لم يعودوا يشكلون جزءاً عضوياً طبيعياً من مجتمعنا بل هم بمثابة جسم غريب وخطر يهدد الأمن. وهنا تعددت الأصوات المتسمة بالصخب والاندفاع في إطار جدل بشأن الإسلام والتطرف الإسلامي وبشأن موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والزواج القسري والختان واضطهاد المرأة ومعاداة السامية ومعاداة نمط الحياة الغربية. وعندما لقيت ابنة الأسرة الكردية خاتون سوروجو مصرعها في برلين على يد أحد إخوانها وصلت حال الانفعال إلى درجة الغليان. منذ يوم الأحد الماضي يطالب سياسيون ألمان بطرد أفراد أسرة الشابة القتيلة وإبقاء طفلها في عهدة أبوين حاضنين. أمام كل هذه الحملات وعلى رغم أن غالبية المسلمين شجبوا عملية القتل هذه فإن الكثير من الألمان بدأوا يطرحون السؤال الآتي: كيف يمكن أن تتعرض مسلمات يعشن في قلب ألمانيا إلى الاحتجاز وسوء المعاملة والزواج القسري وحتى القتل استنادا إلى مفهوم الشرف؟ ثم أخذت حملات عشوائية أخرى تنطلق وتجد من يصغي لها. فقد صرح رئيس بلدية نوي كولن الضاحية التي غالبية سكانها من العرب والأتراك أن اندماج الأجانب في المجتمع الألماني تعرض إلى الفشل. كما اتهمت خبيرة الاجتماع نجلاء كيليك الألمان الليبراليين بتقبل أوضاع لا يمكن تحملها داخل الجاليات التركية والعربية وامتناعهم عن انتقاد ذلك لا لسبب إلا خوفا من أن يوصموا بالعنصريين. ولو قمنا اليوم بإجراء دراسة شاملة لما نشر في وسائل الإعلام الألمانية عن أوضاع الأجانب لظهرت أمامنا النتائج الآتية: يعيش في البلاد أتراك وعرب يمتنعون عن تعلم القراءة والكتابة ويرغمون بناتهم على الزواج طوع إرادتهم ويكافحون في سبيل إنشاء دولة قائمة على الدين داخل مجتمعاتهم الموازية لمجتمع الغالبية باستخدام القتل سواء عن عمد أو من دونه. هذه القراءة تعني سياسيا أنه لا بد من السيطرة سريعا على مجريات الأمور تفادياً لاندلاع حرب أهلية مكشوفة.
لم يكن العام 2005 عاماً طيباً للمسلمين في ألمانيا. فبعد وقوع كل عملية إرهابية على يد متطرفين إسلاميين ارتفعت حدة الضغط المسلط ضد الأقلية المسلمة وطلب منها على نحو متكرر إظهار توجهها الديمقراطي على نحو استعراضي وذلك بغض النظر عما إذا كان لأفراد هذه الأقلية صلة بالتيار الإسلامي المتطرف أم لا. مثل هذه المطالب مقتصرة على المسلمين في ألمانيا. وعلى سبيل المثال فإنه على رغم شجب منظمات واتحادات المسلمين في ألمانيا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ونبذهم جميع أشكال العنف فإن هذا لم يمنع رئيس اتحاد مكافحي الجريمة الألماني كلاوس ينزن بعد وقوع تفجيرات لندن من الاعتراض على عدم تصدي الجاليات المسلمة للمتطرفين في محيطها إلا بصورة ضعيفة. كما أن صحيفة «دي فيلت» المعروفة بعدائها للعرب والإسلام نشرت تعقيبا جاء فيه: «كلما ازداد عدد الاعتداءات الواقعة تطلّب ذلك على نحو قسري من المسلمين المقيمين هنا الإعراب بشكل واضح عن تبنيهم للتسامح والديمقراطية للمبادئ الغربية»، ثم أضافت الصحيفة تقول: «لكن الكثيرين من المسلمين لم يعوا ذلك».
كل هذه مواقف خطيرة موجهة ضد المسلمين ولا تشكل سوى خيط رفيع يفصل بين التوجهات والمؤامرة والأحكام المبنية على التوجه الثقافي الشوفيني التي تضع المسلمين في موضع صعب للغاية، ما يوضح مدى انعكاس النظرة - التي تضع أقلية دينية موضع الاتهام - على الاختبار النافذ المفعول ابتداء من مطلع العام 2006 في ولاية بادن فورتمبيرغ، إذ على المسلمين بالذات الإجابة على قائمة طويلة للتعرف على أفكارهم وقناعاتهم عندما يتقدمون بطلب الحصول على الجنسية الألمانية. مثلا السؤال: كيف يكون موقفك إذا عرفت أن ابنك شاذ جنسياً؟ ما رأيك برجل متزوج من امرأتين؟ كيف ستتصرف إذا علمت أن بعض الأشخاص في جوارك يخططون لعمليات إرهابية؟
هذه صورة خطيرة عن وضع قائم، وخصوصاً أن تجارب الماضي دلت على أن سلوك الطريق المبني على الأحكام المسبقة والتشكيك أفرز دوماً قمعاً وعنفاً
العدد 1323 - الخميس 20 أبريل 2006م الموافق 21 ربيع الاول 1427هـ