العدد 1322 - الأربعاء 19 أبريل 2006م الموافق 20 ربيع الاول 1427هـ

مَنْ هذا الطارق على الحديد؟

عيد عبدالله يوسف comments [at] alwasatnews.com

الفنان التشكيلي أحمد البحراني. نحات عراقي مغاير ومغامر ومتغرب. استقر في دولة قطر حين تبعثر استقرار العراق!

- أقامت دار البارح للفنون التشكيلية في مملكة البحرين، معرضاً متميزاً لأعماله الفنية مساء الأحد 26 مارس/ آذار 2006.

إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها أعمال/ منحوتات الفنان العراقي أحمد البحراني في تقنية الطرق على الحديد، لكنها - ربما - وفق معنى من معاني الفن تفصح عن أنها (تقنية الرأف بالحديد). ذلك أنني في معرفتي المحدودة بالتشكيليين الطارقين على الحديد، وجدت أن البحراني فناناً متماهياً مع الحديد، رؤوفاً به إلى حد الاجتهاد أو التكفل أو الإصرار على تخليصه من كل صفاته التاريخية التي تبدأ بالبرودة والصدأ، ولا تنتهي بالقساوة. فمنذ نشوئها في تراب الأزمنة والحضارات البائدة والسائدة، دأبت خامة الحديد على التستر بالبرودة والصلابة والصدأ، ربما لمداراة جمال معدنها كي لا يفتضح أمره أو يشاع فيغري أو يستهوي مبدعين بارعين من طراز أحمد البحراني، يزيلون عنها ما تموهت به، ثم يجعلونها فرجة فنية راقية التكوين والأحاسيس والملامس، وبراقة الجسد أمام الناس...

إن التقنية التي اجترحها البحراني على الحديد تستعير في رأي بلاغة الفضة النقية وخصائص الزئبق المبهمة وليونة الطين المعجون بماء الفرات ودجلة، حتى لكأننا نشعر أن منحوتاته، طين يرتدي الحديد كفرسان العصور الوسطى.

ثمة تموجات ينساق لانسيابيتها الحديد، فيغدو طيناً / صلصالاً ثم بشراً... فهل نسي الطين ساعة أنه طين، ونسي الحديد أبداً أنه حديد وهو يسلم قياد طاقته الكامنة وأسرار خامته المتوارية لرؤى أحمد البحراني المبدعة، ولأدواته وأزاميله الرؤوفة، كي تستحوذ على صلابة الحديد التاريخية؟

أو ليس الطين ناساً والناس طيناً؟ وهل تاريخ النحت منذ بواكيره الأولى وعلى مختلف الخامات، إلا اجتهاد مبدع حميم خلاق، لجعل أعتى خامات الأرض في متناول أزاميل ومطارق مبدعي التشكيل في عالمنا؟ أشكاله وتكويناته الحديد المصقولة المبثوثة في قاعة البارح للفنون التشكيلية، ما ذاهي؟ (أو) من هي؟

هل هي عمدان تاريخ عربي، تلتوي وتعوج وتتداخل وتتقاطع تحت ضغط سقيغة عربية تموع ثم تتفتت دوائر (مثلثات) مربعات مستطيلات، تتشبث بجدران قاعة العرض كي لا تسقط أو تتهاوى وهل قاعة العرض إلا جدران كل بيت عربي قد تشظى سقفه نتفاً؟

لماذا يتبادر هذا التصور، أو لماذا يقترح الذهن والبصر هذه القراءة؟ هل لأن الرافدين هكذا الآن؟ أم لأن السقيفة العربية قد شاخت فداهمتها الشقوق؟

ألم يكن الكرسي الحديد بقوائمه الملتوية وباستطالة مسنده المعوج وهو يتوسط وحيداً جداراً كاملاً في قاعة العرض/ العرش، إلا بمثابة الكرسي المعهود في مطلق ترميزات الأدباء والشعراء والفنانين على مد العصور؟ وهل تبدو المنحوتات المستطيلة الرهيفة المشرئبة الملتوية المتداخلة في أجساد بعضها بعضاً... رعايا؟

ألم يكن المكان (قاعة العرض) سينوغرافيا دولة أو شبه دولة؟ هنا يتداعى من الذاكرة، المعنى الذي ألفناه مذكنا أطفالاً.

«والحديد ساخن...» أو «لا يفل الحديد...» أو ربما قول عنترة العبسي لحظة أسره التاريخي: «إن لم يطاوعني الحديد...»!

هل كان أحمد البحراني وهو ينتخب الحديد يفصح عن «عنترة البابلي» الموسوم بالعجب والوجع والغضب، منذ نشأة العرب؟ جاهداً إعادة قراءة الفارس العبسي وأسطورته الحديد في الذاكرة العربية الشعبية الصادقة لشحذ الذاكرة الرسمية الصدئة؟

(ليس بحوزتنا أجوبة... لكن نملك كل الأسئلة!)

وأعتقد بعد الذي اعتقدته آنفا، أن هذا النحات الرؤوف، قد اخترق ببصيرة فكرية خلاقة، تركيبة عضوية كيماوية ومعنوية، لخامة من أعتى خامات الأرض واستفرد بها في غواية فنية مبهرة، كي يهديها لأبصارنا - أو ربما - لأفكارنا، وهي ترفل في لمعان سيولتها الأولى، كي تحرضنا على هتك برودة طبيعتها لاكتشاف دفء البلاغة التكوينية الفنية الكامنة فيها، التي يقترحها بجدارة علينا الفنان التشكيلي الملفت أحمد البحراني... فتحية له وهو يعاكس بالحديد، الموسيقار اللبناني الرائع زياد رحباني/ لحنه وكلمات أغنيته الشهيرة: «حن الحديد على حال وانت ما حنيت... لو كنت تدري بحالي من زمان أنيت!»

عبدالله يوسف فنان تشكيلي مسرحي،موسيقي ومخرج تلفزيوني متعدد المواهب

العدد 1322 - الأربعاء 19 أبريل 2006م الموافق 20 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً