قبل قرابة أسبوعين اتصل بي مسئول أوروبي «رفيع المستوى» ليدردش في أوضاع المشرق العربي. وأثناء الحديث عرج على السبب الأول لاتصاله قائلا: هل يمكنك أن تدع جانبا لدقائق مرجعية حقوق الإنسان فنتحدث سياسة واستراتيجيات؟ قلت له: لست متأكدا من ذلك ولكن سأحاول. فقال: لو كنت في موقع المسئولية في بلد أوروبي، كيف تتعاون مع وصول حماس للسلطة؟ سألته: هل وجهت هذا السؤال إلى أشخاص من طرف الضفة الثاني؟ قال: بالتأكيد، وهم يتصلون كل يوم لمعرفة ما ستفعل كل دولة أوروبية وحريصون على مقاطعة واضحة للحكومة الفلسطينية. فقلت له: هل لديكم سياسيون قادرون على الانسجام مع أنفسهم وقيمهم ومصالح بلدانهم ولو كلفهم ذلك مواجهة مفتوحة مع اللوبي الموالي لـ «إسرائيل»؟ فقال: موجود، ولكن بالطرق الدبلوماسية المناسبة. قلت له: يكفي الشعب الفلسطيني ذلك... أنتم برأيي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تنضموا إلى الموقف الأميركي الذي قاطع عرفات ويقاطع حكومة حماس، وعندها تتحول اللجنة الرباعية عمليا لما يمكن تسميته اللجنة الثلاثية، أو أن تفتحوا قنوات حوار مع حماس. أذكر حضرتكم بأن حكومات أوروبية فتحت خطوطا متعددة على «أبونضال» مقابل إبعاد شبح العمليات الإرهابية عن أوروبا. حماس لم تطلق رصاصة واحدة خارج فلسطين. ثم لماذا قبلتم بخيار الإسرائيليين لنتنياهو رئيسا للوزراء على رغم تحطيمه عمليتكم المسماة أوسلو وترفضون الخيار الحر للشعب الفلسطيني؟ كنتم يومئذ تطالبون العرب بإعطاء الوقت لهذا السياسي غير المحنك بعد، اليوم ليس لديكم سوى صرخات المقاطعة والتهديد!
قال لي محدثي: لكننا دخلنا منطق الحرب على الإرهاب وصنفنا حماس... أجبته مقاطعا: كذلك هناك أكثر من ثلثي مسلمي العالم يعتبرون جورج بوش إرهابيا، فهل تودون أن تصنف أوروبا في الوعي الجماعي كذلك؟ ما هو عدد الأوروبيين الذين يعتبرون «إسرائيل» الخطر الأهم على السلام العالمي، هل لديك النسبة نفسها عن حركة حماس؟ قال محدثي: بصراحة، لا أظن ذلك. قلت له: لديكم فرصة مهمة، روسيا عبدت الطريق، ويمكننا كمثقفين عرب حريصين على علاقات أوروبية عربية متميزة أن نطلب من «حماس» أن تحفظ ماء وجهكم وتبادر إلى حوار مع الأوروبيين. يمكن للكثير من المثقفين العرب أن يرتبوا اتصالات سرية أو علنية، سياسية أو مدنية. يمكنكم أن تتحججوا بالبعد الإنساني لخلق أجواء جديدة تجعل اللقاء مع وزير الصحة الفلسطيني ضروريا في ظل المقاطعة الدوائية والصحية والغذائية الإسرائيلية. بالإمكان فتح خيوط ثقة مع بنوك أوروبية تكون الجسر بين شعب يعيش عملية تجويع منهجية وأشخاص بسطاء يريدون التبرع للشعب الفلسطيني. ولكن الحقيقة أقول لك، ليس لدي أوهام كثيرة حول صحة مواقفكم، لهذا نصحت طرفا من حماس بالتوجه إلى جنوب إفريقيا وأميركا اللاتينية وإيران، بل والصين، والتحضير لفترة تقشف قاسية.
قال صاحبنا: ألهذا الحد ثقتك محدودة بأوروبا؟ قلت له: لا، الشعوب الأوروبية تحترم الحقوق الفلسطينية المشروعة. ولعل أحد منشطات معاداة السامية الشعور بأن «إسرائيل» فوق القانون الدولي وفوق القواعد الأخلاقية. دولة، كما يقول شارون، تحاسب من تشاء ولا يحق لأحد محاسبتها. يروق لي التذكير دائما بأن كل النظريات الحديثة قامت على فكرة استغلال الإمبريالية للآخر. «إسرائيل» هي الاستثناء الوحيد ككيان يستغل الإمبرياليتين الأميركية والأوروبية.
قبل قفل الموضوع توجه لي بالسؤال: عندي سؤال صغير، ما هي برأيك نتائج وقوف أوروبا بمحاذاة الولايات المتحدة في الموقف من حماس؟
قلت له: المزيد من الكراهية للغرب، المزيد من التعاطف مع القضية الفلسطينية على أسس دينية وقومية، المزيد من الحقد والعنف، وأخيرا وليس آخرا، معركة خندق جديدة معاصرة.
سألني: وما هي معركة الخندق؟
قلت له: عندما اجتمع كل الفرقاء ضد النبي محمد وحاصروه، كان انتصاره تغييرا لخريطة العالم القديم.
ربما يتوجع صاحبي اليوم على أوروبا التي رضخت لهذه الإدارة الأميركية التي طالبت الفلسطينيين بانتخابات حرة ونزيهة. والتي تؤكد عبر صمتها عن الحصار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، أن الانتخابات في ظل الاحتلال محدودة الأثر محدودة الفعل ولا تعني سيادة لشعب أو لوطن.. وإن أضافتها الآنسة رايس للكتاب المقدس فهي لا تتعدى كونها تقنية من تقنيات الديمقراطية لها معناها ومبناها في ظل سيادة البشر على مصيرهم. لهذا تعاملنا بازدراء مع القراءة الأميركية للديمقراطية واعتبرناها عدوا لدودا لكل الديمقراطيين. فعندما يقرر المحتل الإسرائيلي ما يدخل ويخرج للأراضي الفلسطينية من غذاء ودواء، لا يمكن الحديث عن دولة فلسطينية ممكنة العيش في ظلال الدبابة الإسرائيلية
إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"العدد 1319 - الأحد 16 أبريل 2006م الموافق 17 ربيع الاول 1427هـ