يصاب المرء بالاندهاش وتعصف به الحيرة أينما ساقه حظه العاثر، ورمت به سويعات تائهة من زمن اليوم العادي يتخفف فيها من متاعب العمل ليسمع ويشاهد بعضهم وهو يعتلي منبراً إعلامياً، متدثراً بسوداوية، ونقص في واقعية مفردات خطابه الذي لا يحمل احتراما لشعب حدد خياراته بالانتصار للديمقراطية، محاولا القضاء على أي أمل لدى سامعه ومشاهده بانهزام الاستبداد ممثلا بحزب البعث في العراق (عبدالباري عطوان مثلا)، إذ يقولون في إصرار عجيب متعب لأعصاب سامعيهم، وباعث على السأم لمشاهديهم، لكنه قول يظل محل سعادة للذين يشايعونهم الفكرة ممن لا ينتمون للواقع ويعايشون متغيراته، ان الذي يحترق في العراق هو نتاج مقاومة.
وليكونوا أكثر تحديدا ودقة فيصفونا بالمقاومة الشريفة. ويقول بعضهم (كاتب السطور مثلا واحد منهم) ردا على هكذا استخفاف بإرادة شعب يدفع يوميا الأكلاف أرواحا ودماء، لعل ذلك يمثل شيئاً من تحريض «ايجابي» محمول على متن مكابرة مطعونة في كرامتها، أو مزايدة من منتمين لتيارات الاسلام السياسي المفجوعين بانهيار حلمهم في أفغانستان، سيستمر بعضا من الوقت حتى يفيقوا من الحلم الذي وضعهم فيه النظام السابق ويتحسسوا مواقع هشاشته الكامنة في عنصريته.
حقيقة، أن نكران وجود مقاومة بالمطلق به الكثير من التشكيك بإمكانات الشعب العراقي، وتطاول على عميق تراثه الوطني المتراكم، الذي يستحق منا كل التقدير، لكن الافتراض بوجود مقاومة كالتي يتحدث عنها الكاتب عبدالباري عطوان ومن لف لفه، هو شيء من دفاع عن مجهول يتخذ صفته في الواقع المعلوم حزب البعث وتنظيم القاعدة، أي أن ذلك قول يدفع بإعطاء شرعية لمقاومة التغيير وليس الاحتلال.
والحديث عن مقاومة، ومقاومة شريفة بالتحديد، يحمل من الدلالة ما يكفي بنقض فعل ممارسيها، وتخطيء مروجي فعلها عبر استحضار مشاهد الدم وهي تسيل بالجوار من دجلة والفرات، يسابقهما الانهمار في مياه الخليج لتحيل لونه إلى لون الورد لتكسبه بذلك لون الحلم الذي طالما تسامى تكثفا في مخيلة العراقيين. فأينما وليت وجهك بحثا في أفق منظور عن شكل من أشكال المقاومة فلن تجدها إلا حين يسقط جندي أميركي واحد، بعد أن تكون العمليات الاستشهادية أو الانتحارية، سيان، قد حصدت المئات من أبرياء العراق، وبالتالي يتمت ورملت الآلاف.
فكل ذلك الشرر المتطاير من الأراضي العراقية واحتمالات انتشاره اقليميا تزداد رسوخا بفعل «المقاومة الشريفة» التي لا تحمل من سمات الشرف ونصاعته إلا رماد أجساد الشعب من سنة وشيعة وغيرهم من مكونات الشعب العراقي الذين يقتلون على الهوية، وتذروها الرياح في سماء الضمير الإنساني. ويقيني أن «المقاومة الشريفة» ستوظف ما قد قيل من أن ولاء الشيعة ليس لأوطانهم، وهو، بالتأكيد، قول تنقصه الدقة، ولا ينبغي، إن صح ذلك، أن يخرج من رئيس دولة كانت دائما الساعد الأيمن للدفاع عن الدول العربية، وبالتالي ستستجدي «المقاومة الشريفة» الدعم «لوقف تعدد الولاءات والانتماءات» وستحصل عليه من أكثر من مكان، ويمكننا تصور المحرقة المترتبة على ذلك. وسنشهد، إذا لم يصدر ما يفيد بالتراجع عن القول أو تكذيبه، مدى الصدع وواسع الشرخ الذي سيترتب عنه، لأن وقعه بالغ القسوة على الشيعة العراقيين بمختلف انتمائاتهم الفكرية، الذين يتوقعون الدعم والمساندة، ودع عنك المتهافتين على المراكز القيادية في الحكومة المقبلة، إذ إن ذلك مسعى يتشاطره بعض العرب وبعض الأكراد وبعض الآخرين.
أظن أن ثمة فرقا نوعيا ينفرز من قلب الحدث، العراقي في موقعيته، والعروبي في فضائحيته، فيما يتعلق بالاستشهاد أو الانتحار، من حيث هما مفهومان أحالهما الارهابيون والصداميون إلى مفهوم واحد، يتقاسمان فعلاً تشطيريا يعيث تدميراً لمفهوم المقاومة عموماً، والفعل الفدائي من حيث هو عمل نوعي في قلب المقاومة خصوصاً، ذلك الفعل الذي كان محل قداسة لفترة طويلة من الزمن امتدت على مدى عمر حركة التحرر الوطني من الاستعمار، رفع إلى ذرى المجد أسماء من مثل جميلة بوحيرد. إذ إن الواضح في ما يشار إليه بعمليات استشهادية أو عمليات انتحارية وعلى النحو الذي نسمع به ونشاهده على شاشات التلفزة، وما يسببه من تمزقات وتشويهات في النسق المفاهيمي لجنس البشر، لا ينبىء بقدسية المقصد وبياض السريرة، الذي من أجله تسترخص الأرواح وتبذل المهج دفعا للمحتل بالرحيل.
اعتقد أن مقاومة من قبيل تلك التي يتحدث عنها عبدالباري عطوان مثلاً، والتي حتما يقودها حزب البعث الذي عرف بقتله ومقابره الجماعية، هي مقاومة موجودة فعلاً تبحث عن زمان ومكان تعيد فيها قبضتها على السلطة... ولكنها، بالتأكيد ليست شريفة
العدد 1318 - السبت 15 أبريل 2006م الموافق 16 ربيع الاول 1427هـ