بينما تتدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة بمليارات الدولارات على المغرب في الآونة الأخيرة، دافعة بالدورة الاقتصادية إلى الأمام، مواكبة للورشات الكبرى التي أطلقت في العام 2005، بقي الواقع السياسي، في المقابل، يراوح في مكانه. فمعاملات الدمج ونشوء تحالفات جديدة بين مختلف الأحزاب السياسية في المغرب، لاتزال دون المستوى المطلوب، ناهيك عن كونها تعاني من عدم القدرة على رؤية النور.
جذب المغرب في ظرف أسبوع واحد أكثر من 20 مليار دولار من الاستثمارات الخارجية، جميعها جاءت من دول الخليج العربي. ففي 30 مارس/ آذار ترأس الملك محمد السادس شخصياً حفل توقيع ثمانية عقود بقيمة 9 مليارات دولار، كناية عن اتفاقات بين الدولة من جهة، وأكبر مجموعتين من دولة الإمارات العربية المتحدة، «دبي القابضة» و«إعمار» من جهة أخرى. وتتوزع هذه الاستثمارات على مدى عشر سنوات... لقد تركزت هذه الأخيرة على أربعة محاور أساسية في الاستراتيجية التنموية التي وضعتها المملكة المغربية. ويتعلق الأمر بمدينة الرباط (5,1 مليارات دولار)، مراكش (2,4 مليار دولار)، الدار البيضاء (مليار دولار) ومدينة طنجة (0,65 مليار دولار). وجرى التوقيع كذلك على سلسلة من الاستثمارات الأخرى بعضها يعود إلى دولة قطر والآخر بلغ مراحله النهائية مع المملكة العربية السعودية.
ويرى المراقبون أن هذه الاستثمارات العربية يمكن أن تحل تدريجياً مكان الاستثمارات الأوروبية التي لاتزال تحتل الصدارة، وتحاول شركاتها التموضع بشكل أكبر داخل السوق المغربية التي تعيش حالياً فترة تحولات جذرية على جميع الصعد.
وينبغي الإشارة إلى أن التدفق الرأس مالي الإماراتي الأخير كان قد بدأ السنة الماضية مع دخول «هيئة المنطقة الحرة لجبل علي» التي وقعت اتفاقاً لإدارة «منطقة طنجة المتوسطية الحرة»، هذا المشروع الذي يربط منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، والذي يعتبر أحد رهانات المغرب الاقتصادية في العقود المقبلة. «فالهجمة» الاستثمارية الخليجية بدأت تنافس جدياً الشركاء التقليديين مثل فرنسا وإسبانيا اللتين لا تنظران بعين الرضا إلى هذه التدفقات العربية التي يصعب على مجموعاتها اللحاق بها في ظل حال الركود التي تمر بها اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة.
في هذا السياق، لحظ الوزير المغربي الأول إدريس جطو أن الدولة تتوقع زيادة ملفتة لاستثمارات دول الخليج في السنوات الخمس المقبلة في حال عمدت هذه الأخيرة المشاركة بفعالية في مشروعات البنيات التنمية من طرق وطرق سيارة، مرافئ ومطارات جهوية وسدود. فرص بعشرات المليارات من الدراهم يجب عدم تفويتها وخصوصاً أن بعض المجموعات الخليجية باتت قادرة على منافسة نظيراتها الأوروبية.
فخلال الاجتماعات المشتركة التي عقدت حديثاً في بروكسل، لم يتردد ممثلو اللجان الأوروبية في انتقاد السياسة التي تعتمدها المملكة المغربية لناحية التسهيلات التي تقدمها للاستثمارات العربية، وخصوصاً القادمة من دول مجلس التعاون الخليجي، والتي غالباً ما تكون على حساب ومصلحة المستثمرين الأوروبيين. ولم يخفِ هؤلاء، بأنه مثل بعض الوقت، يجد المستثمرون هؤلاء صعوبات مفتعلة أمامهم لانتزاع المشروعات الواعدة في قطاعات محددة. وذهب بعض خبراء لجان بروكسل إلى حد السؤال فيما إذا كان هذا التوجه الجديد لجذب الاستثمارات العربية وعرقلة الأوروبية نابعاً من إرادة ملكية.
ومن المؤشرات الملموسة الأخرى التي ذهبنت في خانة تمييز الاستثمار العربي عن غيره، الاهتمام المتزايد، منذ مطلع العام الجاري، لشركات الوساطة المالية العاملة في الأسواق المالية الخليجية في الرياض وأبوظبي والدوحة، ببورصة الدار البيضاء. في أروقة فرع شركة الوساطة المالية «للتجاري وفا بنك»، أحد أبرز المصارف المغربية يدور الحديث حول التدخل المتوقع للمضاربين الخليجيين، وخصوصاً بعد أن بدأ قسم كبير من صناديق الاستثمار في هذه البلدان والبالغ قيمتها نحو 80 مليار دولار الهروب تدريجياً إلى الخارج بعد الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها البورصات في هذه المنطقة في الأسابيع الأخيرة باتجاه الأسواق المالية الآسيوية والبورصات الصغيرة الحجم. وتمثل الدار البيضاء، بحسب المحللين الماليين، نقطة جذب في المرحلة الحالية.
ويعتبر المراقبون أن الاستقرار السياسي المترافق مع عملية التحرير الاقتصادي الجارية على قدم وساق منذ عدة سنوات، إضافة إلى القوانين التي تشجع أكثر فأكثر الاستثمار الخارجي المباشر، لابد أن يجذب الرساميل والسيولة الزائدة في الأسواق المالية الخليجية باتجاه المغرب! وخصوصاً أن هذه الودائع تبحث في هذه المرحلة بالذات عن تحقيق الأرباح في أوقات قياسية. ما توفره بعض المشروعات المعروضة حالياً في المغرب. فالطفرة الحاصلة في القطاع العقاري وتوقع خصخصة عدد من شركات القطاع العام خلال هذه السنة، إضافة إلى فتح القطاع المصرفي أمام الاستثمار الأجنبي غير الأوروبي، بدأ يجذب المصارف الإسلامية الخليجية التي تريد أن تجرب حظها في هذا الميدان.
خارج اللعبة... والتحولات
إذا كان الاقتصاد يتقدم بخطى كبيرة وثابتة في جميع المجالات تقريباً، فالسياسة من جانبها تسجل تراجعاً متزايداً إلى حد الغياب في جوانب متعددة، فعلى رغم محاولات الدمج التي تمت بين بعض الأحزاب الذي كان آخرها نشوء حزب «الحركة» الذي يضم ثلاث مكونات بربرية، والتقارب المعلن بين بعض قوى اليسار ويسار الوسط، فإن الخريطة السياسية المغربية لم تنجح حتى اللحظة في رسم خطوطها وحدودها. وبالتالي، لم تتمكن من إقناع قواعدها بدعمها والوقوف إلى جانبها في المستقبل. فقبل نحو عام على الانتخابات التشريعية المقررة في 2007، لاتزال الأحزاب السياسية المغربية تعيش حالاً من الإرباك والتخبط. فهي غير قادرة على تقديم الأجوبة الملائمة للاقتراحات المقدمة من قبل ملك البلاد في خطابه بمناسبة عيد العرش منذ أشهر. فالعاهل المغربي كان حث هذه الأحزاب على إعادة النظر في أوضاعها التنظيمية، كما طلب منها تحديث هياكلها وفتح المجال أمام الشباب لتولي المناصب القيادية، وتطهير مؤسساتها من الشوائب التي علقت بها! والأهم، وضع البرامج التي ستجذب المنتسبين الجدد وتؤطر الأعضاء والمناصرين. ففكرة رد الاعتبار لهذه الأحزاب من وجهة نظر الملك، وخصوصاً تلك التي لعبت أدواراً رئيسية في تاريخ المغرب الحديث، لم تلق التجاوب المرجو من قبل قيادات هذه الأخيرة حتى الآن، إذ بات من الملاحظ أنها أصبحت من دون روح، ناهيك عن عجزها عن متابعة التحولات الكبرى الجارية حالياً. لذلك، من الصعب عليها استعادة مواقعها في الأشهر القليلة المتبقية قبل الاستحقاق الانتخابي.
فالحزب الوحيد الذي يمكن اعتباره استثناءً هو حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي التوجه والموجود بقوة في البرلمان المغربي، إضافة إلى كونه يشهد ارتفاعاً على مستوى النقاط في استطلاعات الرأي المتعددة. ويرفض قادة هذا الحزب بشكل قاطع أي حديث عن طوفان شعبي لمصلحته في انتخابات 2007، محاولاً في المقابل، الحفاظ على حال من الواقعية والموضوعية من خلال اعتبار هذه الشائعات التي تتحدث عن فوزه الساحق القادم بمثابة محاولة للنيل منه وإضعافه قبل الوصول إلى الاستحقاق المنشود.
في هذا الإطار، تصدر قياداته باستمرار تكذيبات لجميع هذه المعلومات التي تتحدث عن تحالف مرتقب مع بعض الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة. هذا ما أكده لـ «الوسط»، أمينه العام سعدالدين العثماني، الذي كذب جملة وتفصيلاً المعلومات التي أشارت إلى نشوء تحالف مع «حزب الاستقلال» طالما أن هذا الأخير لايزال يشكل جزءاً من «الكتلة» (الجبهة الديمقراطية التي تضم في عدادها «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بقيادة محمد اليازغي، والحزب الشيوعي السابق الذي يشرف عليه إسماعيل العلوي).
فالدراسات التي طلبتها وزارة الداخلية من بعض المؤسسات المختصة والتي حصلت عليها في مطلع شهر مارس/ آذار الماضي، توافقت على الإشارة إلى أن وضع غالبية الأحزاب السياسية المغربية سيئة. فإذا كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سيتمكن من النفاذ من خروم الإبر بأقل الخسائر الممكنة في انتخابات 2007، فإن هذه الحال لن تنطبق ربما على حليفه الحزب التاريخي الاستقلال الذي يقوده حالياً عباس الفاسي، ويواجه هذا الأخير، حاله حال حزب الوسط الذي يديره أحمد عصمان، معارضة متزايدة من قبل قسم من القيادات، الشابة منها خصوصاً، كلما تم الاقتراب من موعد الانتخابات.
لهذا السبب، تسري الشائعات اليوم عن إمكان تسلم رئيس الوزراء إدريس جطو، قيادة هذا الحزب. فإذا ما تأكدت هذه المعلومة، فإن هذا الأخير سيكون مضطراً إلى الاستقالة من منصبه كوزير أول تاركاً المجال أمام شخصية مستقلة كي تدير العملية الانتخابية.
أما فيما يتعلق بأحزاب اليمين المسماة بـ «الوفاق» سابقاً، فإنها لم تعد تؤثر في مسار اللعبة السياسية بعد إبعاد عرابها ومؤسسها الرئيسي، وزير الداخلية السابق إدريس البصري. في هذا السياق، تشير بعض المصادر المطلعة بالرباط، إلى أن الرجل القوي حالياً في وزارة الداخلية فؤاد عالي الهامة، الوزير الفعلي عملياً، يحاول مجدداً تركيب صيغة الأحزاب اليمينية بهدف إحداث نوع من التوازن، ولو غير المتكافئ، على صعيد الخريطة السياسية للأحزاب المغربية.
ففي مواجهة هذا الخلل السياسي القائم، لا يبدو أن الملك محمد السادس متحمس بعد اليوم لرد الاعتبار إلى هذه الأحزاب التي قررت الاستقالة من مهماتها وعدم الاستجابة لدعوته للتحديث والتطور. فمضاعفته إطلاق مشروعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المرحلة الأخيرة، يبدو أن العاهل المغربي لا يريد إعطاء أدنى فرصة لهذه الأحزاب التي لن تستطيع اللحاق بركب التحولات الجارية والتي تظهر يوماً بعد يوم، عدم كفاءتها بل عجزها السياسي
العدد 1308 - الأربعاء 05 أبريل 2006م الموافق 06 ربيع الاول 1427هـ