من أهم أهداف الإدارة المائية في القطاع البلدي أن يتم تزويد المياه للمشتركين بأفضل جودة وبحسب المواصفات العالمية، وبأقل التكاليف. وفي هذا القطاع تعتبر فواقد المياه بسبب التسربات من أكبر التحديات التي تواجه مديري المياه وتعوق تحقيق هذه الأهداف، وخصوصاً في الدول التي تقع في المناطق الجافة ذات الندرة المائية، مثل دول مجلس التعاون، بسبب اعتمادها على تحلية المياه لتلبية المتطلبات النوعية لهذا القطاع والتي تكون فيها تكاليف إنتاج المياه عالية نسبياً مقارنة بالدول التي تمتلك مياها سطحية.
وبالإضافة إلى كونها باهظة التكاليف، فإن المياه المتسربة يمكن أن تتسبب في الكثير من المشكلات الهندسية فضلا عن أضرارها المحتملة على البنية التحتية. ففي الحالات الشديدة، يمكن أن تؤدي هذه التسربات إلى انهيار الشوارع وعدم استقرار المباني وتخريب خطوط الاتصالات تحت الأرضية. كما يمكن أن تنتج عنها تأثيرات بيئية سلبية، إذ تمثل نقاط التسرب في بعض الأحيان مدخلاً للمياه القريبة من السطح مثل مياه الصرف الصحي أو المياه الناتجة عن الأنشطة الزراعية وغيرها، مؤدية إلى حدوث مشكلات في نوعية وجودة المياه المزودة للمنازل مثل الطعم والرائحة، واحتوائها على الكيماويات واحتمال نمو البكتيريا فيها. ولذلك فإنه من الضروري أن يتم الاهتمام بإنشاء برامج للتحكم في هذه التسربات وإعطائها أولوية قصوى من قبل إداريي المياه ومتخذي القرار لزيادة كفاءة التزويد وتقليل احتمالات التلوث، وبشكل عام تقليل التكاليف النهائية لعملية تزويد المياه.
ويمكن تقسيم تسربات المياه البلدية إلى نوعين، الأول هو تسرب المياه في المنزل (أي ما بعد عداد المياه)، والثاني هو تسرب المياه من الشبكة المزودة لهذه المياه (أي ما قبل العداد)، وتقع، طبعاً، مسئولية التسرب الأول على صاحب المنزل بينما تقع مسئولية التسرب الثاني على الدولة. ويمكن إرجاع أسباب التسربات، سواء تلك الحاصلة في المنزل أو في الشبكة إلى عدة أسباب، منها قدم شبكة التوصيل وتآكل المواد المستخدمة في بنائها، أو عدم وجود مواصفات خاصة بتركيب وتثبيت التوصيلات المائية، وإذا وجدت هذه المواصفات فهناك عدم التزام مقاولي البناء بها، أو بسبب استخدام المواد رديئة الصنع، أو بسبب الحوادث الناتجة عن العمليات السطحية المؤدية إلى انكسارات في أنابيب الشبكة، وغيرها.
ولإعطاء القارئ فكرة عملية عن حجم التسربات والكلفة المصاحبة لها نسوق الحسابات الآتية: تدل التجارب والملاحظات العملية على أن تسرب قطرة واحدة من الحنفية في الثانية يؤدي إلى ضياع حوالي 25 لترا في اليوم، أي حوالي 10 آلاف لتر (10 أمتار مكعبة) من الماء في العام. ولو افترضنا أن هناك حنفية واحدة فقط تسرب الماء في جميع الوحدات السكنية في البحرين، ويقدر عددها بحوالي 170 ألف وحدة، فسنجد أن كمية المياه التي من الممكن أن تهدر من خلال هذا التسرب قد تصل إلى حوالي 1,7 مليون متر مكعب في العام، وتبلغ كلفة هذه الكمية على الدولة حوالي 680 ألف دينار بحريني في العام (بحسب الدراسات تبلغ تكاليف إنتاج وتوصيل المياه البلدية للمشترك في البحرين 400 فلس للمتر المكعب الواحد)، يمكن أن تذهب إلى المجاري من دون استخدام! هذا فقط لحنفية واحدة مسربة للمياه بمعدل قطرة واحدة في الثانية، وقس على ذلك من حيث التكاليف في حالات تسرب المياه من الحنفية بمعدلات أكبر، أو من أكثر من حنفية بالمنزل، أو من خلال توصيلات المياه بالمنزل.
كما أن تسرب صندوق طرد (سيفون) واحد بشكل مستمر في المنزل، وهذا شائع في البحرين، يمكن أن يؤدي إلى ضياع 200 ألف لتر (200 متر مكعب) في العام، أو ما يعادل ربع معدل الاستهلاك المنزلي المعقول لعائلة بحرينية مكونة من 6 أشخاص في العام. وإذا تم حساب هذا المعدل على مستوى المملكة فسنجد أن كمية المياه المتسربة بشكل مستمر من صناديق الطرد قد تصل إلى 34 مليون متر مكعب في العام، أي ما نسبته 20 في المئة من الاستهلاك البلدي في البحرين، أو ما يعادل 14 مليون دينار بحريني!
وللدلالة على حجم ومعدلات التسرب في مملكة البحرين، فقد أشارت البحوث والدراسات الميدانية لقسم الترشيد بوزارة الكهرباء والماء للفترة من 1996 إلى 2004 في برنامج الكشف عن تسربات المباني التي يحدث فيها استهلاك عال للمياه بشكل مفاجئ إلى أن معدل التسرب في هذه المباني تراوح ما بين 5 و7,5 أمتار مكعبة في اليوم، وأنه في العام 2004 وصل عدد الوحدات السكنية التي تم رصد تسربات عالية وواضحة بها إلى حوالي 4000 وحدة سكنية وبمتوسط 5,5 أمتار مكعبة للوحدة، أو ما قيمته حوالي 9000 دينار في اليوم. وقد قامت الوزارة بفضل برنامج المراقبة الاستباقية الرائد بتخفيض نسب التسرب من هذه المنازل بشكل كبير من خلال تنبيه أصحابها إلى ضرورة إصلاح هذه التسربات بالمنزل ومساعدتهم في ذلك.
أما إذا نظرنا إلى فواقد الشبكة البلدية قبل وصولها إلى المشترك في البحرين، أي قبل العداد، فإنه وبحسب إحصاءات وزارة الكهرباء والماء للفترة 1993 - 2003 فإن نسبة الفاقد من شبكة التوزيع كانت في العام 1993 حوالي 25 في المئة من المياه الكلية المزودة بالشبكة، تم تخفيضها بواسطة برنامج خاص للكشف عن التسربات بدءاً من 1996 إلى حوالي 15 في المئة، ثم بدأت في الارتفاع مرة أخرى لتصل إلى 17 في المئة في العام 2003 من المياه الكلية المزودة والبالغة في ذلك العام حوالي 160 مليون متر مكعب. أي أنه في الوقت الحالي يبلغ حجم الفاقد من الشبكة البلدية أكثر من 25 مليون متر مكعب في العام، أو ما قيمته 10 ملايين دينار بحريني تضيع من دون الاستفادة منها بسبب التسربات!
وبالإضافة إلى هذه التكاليف التي يمكن حسابها مباشرة، هناك التكاليف الأخرى غير المنظورة التي من الممكن أن تتسبب فيها هذه التسربات على البنية التحتية في البحرين، من حيث تأثيرها على الشوارع والمباني وخطوط الاتصالات والكهرباء تحت الأرضية. ولذلك فإن مسئولية تقليل الفواقد الناتجة عن المياه المتسربة سواء في المنزل أو في الشبكة، هي مسئولية مشتركة بين المستهلك والدولة، وإذا تم تخفيضها فيمكن أن تؤدي إلى تقليل التكاليف بشكل كبير على الدولة والمشترك معاً، والاهم من ذلك، ستساعد على تحسين نوعية المياه المزودة بالشبكة التي ستصل في النهاية إلى المستهلك.
أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العربي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1304 - السبت 01 أبريل 2006م الموافق 02 ربيع الاول 1427هـ