يمثل إطلاق حفنة من المثقفين العراقيين إلى الساحة الإعلامية للدفاع عن مشروع الغزو وتقديم المسوغات الفكرية والسياسية له أحد أهم مظاهر الاستعدادات الأميركية لغزو العراق. خلال مناسبتين - على الأقل - ظهر مثقف عراقي ذو نزعات ليبرالية علمانية على شاشة قناة البي بي سي البريطانية الثانية طارحا تصوره لمستقبل العراق والمنطقة ككل بعد إسقاط النظام.
خطاب المثقف العراقي الليبرالي (الذي يحتل موقعا أكاديميا في الولايات المتحدة، والذي جنت عائلته ثروة طائلة من تعاملاتها التجارية مع النظام العراقي قبل 1995) عكس السطحية التي تميز خطاب الغالبية الساحقة من المثقفين العرب والمسلمين الليبراليين، وبدا جاهلا بتعقيدات العراق الإثنية والدينية، وبتاريخ العراق الحديث وعلاقاته الإقليمية وموقعه في المنطقة. جوهر التصور الليبرالي ـ العلماني، الذي هو صدى لتصور معسكر المحافظين الجدد في إدارة بوش الداعين أصلا إلى مشروع الغزو، أن إسقاط النظام العراقي وتأسيس الوجود الأميركي في العراق سيؤديان إلى خلق عراق جديد خلال عام أو عامين على الأكثر، عراق مسالم، ديمقراطي علماني، تعددي، يتمتع بالرفاه والاستقرار، ويصبح مثالا للجنة الليبرالية العلمانية في المنطقة. هذا العراق الجديد، الذي سيولد على أنموذج التحول الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية، سيكون الأول في سلسلة من التحولات السياسية الكبرى التي ستؤدي في النهاية إلى انقلاب شامل في تكوين الشرق الأوسط، إلى القضاء على الأصولية وتوجهات العنف، وإدخال المشرق، بما في ذلك إيران ومصر والسعودية، إلى دائرة الليبرالية ـ العلمانية في العالم.
أوصل هذا الخطاب، الذي تحمله حفنة صغيرة من المعارضين العراقيين، دوافع لا تقال صراحة دائما. دوافع عداء عميق ليس للنظام العراقي وسياساته بل لهوية العراق العربية ـ الإسلامية. مشكلة العراق ـ كما يرى هؤلاء ـ هي أكبر من النظام وأبعد من حدود سطوته، مشكلة العراق هي تصور شعبه لهويته وانتمائه، وما لم يجرِ تقويض قاطع ونهائي لأبعاد هذه الهوية فإن مشكلة العراق لن تحل. الغزو الأميركي للعراق - من وجهة نظر هؤلاء - هو مشروع و اسع النطاق، مشروع للقطع مع تاريخ العراق وبنيته الثقافية، ومشروع للانطلاق من العراق إلى كل المشرق العربي والإسلامي لتحقيق الهدف ذاته (سواء بقوة السلاح الأميركي أو بقوة الردع) في بلد بعد الآخر، إيران والسعودية وسورية ومصر، وكل دولة عربية أخرى. بدلا من هذا الانتماء وهذه الثقافة ستحل ثقافة أخرى يحملها رجال ونساء القوات الأميركية الخاصة، موسيقى البوب ومطاعم الوجبات الأميركية السريعة، ثقافة الاستهلاك، والمتعة والتحلل الأخلاقي. وفوق ذلك كله، ثقافة السلام مع الدولة العبرية واحتضانها كقوة اقتصادية وسياسية مركزية، وبوابة لقلب الآباء الروحيين الغربيين الجدد. فإلى أي حد يمكن لهذا المشروع أن يتحقق؟ السؤال الأساسي الذي لا يسأله منظرو العراق الليبرالي ـ العلماني لأنفسهم يتعلق بتكوين العراق ذاته، بنيته وتاريخه منذ ولد كدولة في أعقاب انهيار الدولة العثمانية. إزاحة النظام الحاكم أو بقائه هو أمر ثانوي في هذه القراءة.
العراق والتكوين التاريخي
يتكون العراق من كتلتين عرقيتين رئيسيتين، العرب والأكراد، ويسود اعتقاد واسع بأن الكتلة الكردية قد توصلت إلى قناعة بأن الانفصال عن العراق هو خيار غير ممكن لأسباب سياسية وإقليمية متعددة. ويبدو أن غالبية تيارات المعارضة العراقية في الجانب العربي قد توصلت إلى قناعة موازية بضرورة الاعتراف بالهوية القومية لأكراد العراق. ما تم الاتفاق عليه مبدئيا بين جميع الأطراف هو إقامة نظام فيدرالي، ولكن أحدا لا يعرف حتى الآن مستوى الفيدرالية المنشودة والدور الذي سيلعبه الأطراف في السلطة المركزية، وهل ستتمتع المناطق غير الكردية بحكومتها المحلية في موازاة الحكومة الكردية. كما أن أحدا لا يعرف حتى الآن الحدود الجغرافية لمنطقة الحكم الذاتي الكردي، وما سيؤول إليه وضع الأقلية التركمانية في هذه المنطقة، خصوصا وهي التي تتمتع بدعم كبير من أنقرة التي لا تخفي قلقها العميق من مشروع الفيدرالية العراقية وأثره على ملايين الأكراد الأتراك. من ناحية أخرى يتشكل العراق العربي من طائفتين رئيسيتين: المسلمون الشيعة الذين يشكلون غالبية عرب العراق، والمسلمون السنة.
خلال تاريخ العراق الحديث كله، لعبت الأقلية العربية السنية الدور الرئيس في قيادة الدولة، سواء الدولة الملكية أوالجمهورية، على رغم التفاوت في دور العراقيين الشيعة من فترة إلى أخرى. ولا شك في أن القوى الإسلامية الشيعية لعبت دورا واسعا في معارضة النظام الحالي خلال العقدين الماضيين. المتوقع الآن، إنْ شهد العراق تغييرا في نظامه السياسي، أن يلعب العرب الشيعة دورا قياديا في مؤسسة الدولة يتناسب مع حجهم الديمغرافي. هذا في حد ذاته سيشكل انقلابا مفهوميا في بنية الدولة العراقية الحديثة وعلاقاتها الإقليمية لا يقل عن مشروع الفيدرالية.
نظر العراق لذاته دائما، ومنذ ولادته في 1920، باعتباره كيانا رئيسيا في المشرق العربي، ولعبت الفكرة العربية دورا مهما في بنية الهوية العراقية، بغض النظر عن جدية أو صواب سياسات العراق العربية. جعل هذا البعد في هوية العراق منه محورا للكثير من مشاريع الوحدة العربية، بما في ذلك مشروع الجامعة العربية، وجعل منه شريكا في كل الحروب العربية ـ الإسرائيلية. فهل يتصور مثلا أن يقوم نظام عراقي جديد، يمثل الشعب العراقي تمثيلا حقيقيا بالتنكر للدور العراقي وميراثه العربي؟ ولا يقل انتماء العراق الإسلامي عمقا ولا تأثيرا في بنيته الثقافية وهويته. في المنطقة الكردية، ظلت القيادات الكردية التقليدية دائما تجمع بين البعدين القومي والإسلامي، ليس فقط في كردستان العراق بل أيضا في كردستان إيران وتركيا. وعلى رغم النزعة العلمانية الراديكالية والعداء للإسلام الذي تميزت به سياسات الحكم الجمهوري في غالبية مراحله؛ إلا أن كلا من بغداد والموصل ظلتا دائما مراكز مهمة للثقافة الإسلامية السنية ولقوى الإسلام السياسي. أما في الجانب الشيعي، فإن كل حركة الإحياء العربي الشيعي ارتبطت منذ الخمسينات بالحوزات العلمية وبصعود تيارات الإسلام السياسي. كانت النجف وكربلاء -ولازالتا - أهم مركزين للعلوم الإسلامية الشيعية. فهل يمكن لنظام عراقي جديد، يمثل العراقيين وقواهم، أن يخوض حربا جديدة ضد هوية العراق الإسلامية التي لم يستطع القضاء عليها تداول الأنظمة ذات التوجه الشيوعي والقومي العلماني الراديكالي؟
وعلى رغم الاختلافات الجوهرية بين الحالتين، فلربما يأمل الليبراليون العراقيون من أصدقاء ريتشارد بيرل وبول وولفوديتز وفرانك غافني أن يحقق الغزو الأميركي للعراق نجاحات شبيهة بتلك التي حققتها في أفغانستان. من وجهة نظر المسئولين الأميركيين وحلفائهم في الحكومة البريطانية وبعض المثقفين العرب، فإن الغزو الأميركي لأفغانستان لم يؤدِ إلى إسقاط نظام طالبان والقضاء على معسكرات القاعدة فحسب، بل أيضا إلى إقامة أفغانستان جديدة، بحكومة تمثل شعبها تحث الخطى نحو حقبة من الديمقراطية والسلام الأهلي. ولكن الحقيقة هي شيء آخر تماما. فقد سمي الرئيس الأفغاني الحالي في ألمانيا وبقرار أميركي، ونصب في كابول تحت حماية أميركية ودولية، وبعد عام على توليه السلطة مازال يستشعر خطر أن يعهد بشئون حراسته الشخصية لمواطنيه الأفغان. إذا سحب الأميركيون عناصر القوات الخاصة التي تحمي قرضاي، فربما لن يعيش الرئيس الأفغاني ليحتفل بالذكرى الثانية لتنصيبه. والمسألة هنا ليست شخصية على الإطلاق. ففي أفغانستان الجديدة ترتبط الحكومة المركزية في كابول بعلاقات وثيقة مع القوات الأميركية المحتلة، ولكن الزعماء المحليين في هيرات ومزار شريف وجلال آباد، الذين يقاومون محاولة دولة قرضاي بسط سيطرتها على البلاد هم أيضا حلفاء للأميركيين. وفي اللحظة التي تنسحب فيها القوات الأميركية وتتوقف طائرات (بي. 52) عن القصف، ستنهار حكومة كابول تماما.
يعلن الأميركيون تصميمهم على إقامة نظام ديمقراطي تمثيلي في أفغانستان، ولكن قلة من الأفغان تعتقد بقيمة الصوت الانتخابي لأن تقاليد البلاد وثقافتها تقوم أصلا على مفهوم الجماعة، قبيلة كانت أو عائلة أو جهة أو مجموعة عرقية أو دينية. الأسوأ، أن النسخة الأميركية لأفغانستان، حتى بالمقاييس الأوية، ليست ديمقراطية.
الزعماء الكبار من أصحاب الثقل السياسي الحقيقي، مثل رباني وسياف وحكمتيار، أجبروا على الخروج من دائرة المنافسة أو هم مطاردون. وفيما عدا الرئيس، الذي لا يشكل أكثر من صورة، فإن السلطة الفعلية في كابول أعطيت للأقلية الإثنية، بل لأقلية ضمن الأقلية، بينما تجري عملية تهميش الأكثرية وقهرها على قدم وساق. فوق ذلك كله، فإن القتلة من أعداء واشنطن يتعرضون للمطاردة والاغتيال بتهمة الإرهاب، أما القتلة من أصدقائها فيتمتعون بمناعة من القانون والعدالة. ما شهدته أفغانستان في الحقيقة ليس أكثر من استبدال دموي للمواقع جاء بمجموعة من التحالف الشمالي إلى كابول وأخرج طالبان إلى الجبال. بغير ذلك لا شيء جوهريا تغير، سوى أن الأفغان الجدد، سلطة وشعبا، أصبحوا أكثر كراهية للأميركيين.
فهل سيفرض الأميركيون نظاما «أفغانيا» على العراق الجديد؟ أم أنهم سيتركون للشعب العراقي حرية كاملة في اختيار مستقبله؟ كيف سيتعامل الأميركيون مع قضايا الفيدرالية، والأكثرية والأقلية، والإسلام والعلمنة، ودور العراق العربي والإقليمي؟ إنْ عقدت انتخابات حرة في العراق فثمة إجماع على أن القوى الإسلامية ستحقق انتصارا ملموسا، فهل سيقبل ضباط القيادة المركزية الأميركية وحلفاء الدولة العبرية في البنتاغون بأن تحكم القوى الإسلامية العراق الجديد، أم أن للديمقراطية حدودا تقف عندها؟
سؤال آخر، كيف سيتصرف بعض الليبراليين العراقيين ممن تردد على الدولة العبرية ويحتفظ بعلاقات وثيقة مع الإسرائيليين إن عاد إلى بغداد ووجد نفسه متهما بالخيانة العظمى؟ أليس هذا هو القانون العراقي منذ نوري السعيد وعبدالإله وحتى الآن؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة بقصف 21 بلدا مستقلا، في بعض الحالات يتم القصف لأكثر من مرة كما في العراق، وفي حالات أخرى يتم في سياق حروب طويلة المدى كما في فيتنام. العراق هو حلقة جديدة في هذا المسلسل الطويل. الديمقراطية، التمثيل الشعبي، والسلام الأهلي، هي شيء آخر تماما
العدد 13 - الأربعاء 18 سبتمبر 2002م الموافق 11 رجب 1423هـ