العدد 1298 - الأحد 26 مارس 2006م الموافق 25 صفر 1427هـ

أوطان أم فنادق؟

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

الدين الإسلامي هو الدائرة التوجيهية الأهم والأكبر والأشد أثرا في حياتنا، به ننظر إلى بقية الدوائر، وعلى هديه نسترشد ونتبصر طرق التعامل معها وحدوده.

على رأس تلك الدوائر المهمة التي ينبغي أن تتضح علاقتنا الدينية بها هي دائرة الوطن، وأمامنا في تلك العلاقة خيارات عدة، الخيار الأول أن تكون علاقتنا الدينية بالوطن في عراك دائم، ومفاصلة مستمرة، وتدابر لا يقبل اللقاء والتصالح، فنرفض القبول بالوطن في قاموسنا الديني ونعتبره دخيلاً لا يتطابق ولا ينسجم مع مفاهيمنا الروحية، أو وافداً لم يستوف شروط الإقامة وحق اللجوء ليعامل كأي مفردة أخرى استجدت وهضمت في نسيج القيم الدينية.

هذا النوع من الصد لا يحتاج إلى إمعان نظر ولا إلى تنظير مجهد، فهو يستند إلى افتراض المناكفة والخصام بين الديني العام - الدافع إلى القفز على الحدود الجغرافية المصطنعة - وبين الوطني الخاص - القائم على الاعتراف بالمعادلة الدولية وبكل تقسيماتها وبصماتها الملموسة على خرائط العالم.

الخيار الثاني هو أن نقبل رابط الوطن لكن على أرضية من الصدام المفتعل بينه وبين الدين مع تغليب الوطن على الدين، أو تغليب الدين على الوطن، ونحن هنا نقوم بأمرين غير منطقيين، أحدهما هو افتراض التصارع بينهما كحلقتين مهمتين - من حلقات ودوائر كثيرة - يتحرك المسلم في نطاقهما، والثاني هو تغليب الوطن أو تغليب الدين على الوطن، ولا يخفى أن في التغليب الأول عصبية ممقوتة لا ترضاها تعاليم الدين، وفي الثاني يتوقف الأمر على عدم تمكن الإنسان من إقامة دينه وممارسة عباداته وتكاليفه الشرعية في وطن ما أو مكان ما، الأمر الذي يستدعي أن يفر بدينه، وهو فرض نادر، ومصاديقه محدودة في أوطاننا العربية والإسلامية.

الخيار الثالث هو أن نقبل رابط الوطن على أرضية تصالحية بينه وبين الدين، فيسعى الوطن بإمكاناته ونظمه إلى تمكين الدين وتطبيق أحكامه ونشر ثقافته واحترام شعائره، وفي المقابل يؤدي الدين دوره المطلوب كعادته دافعاً الإنسان ومحملاً إياه مسئولية إعمار الأرض وبناء الإنسان في خصوص هذا الثغر وهذا المكان دون أن يمنعه من أن يمد حبه (بعد ذلك) إلى الدوائر الأوسع والأوطان الأخرى.

إن ثمرة التصالح في هذا الخيار هو التوجيه الديني المباشر للإنسان بخصوص الوطن الذي يقطنه، وإبراز جنبتين أساسيتين هما الحقوق والواجبات بطريقة لا تتناقض مع حبه للدوائر الأخرى، لكن يجب أن تتضح للإنسان مسئوليته عن هذا الوطن مباشرة وأنه على تماس دائم به أكثر من الأوطان الإسلامية الأخرى وإن عدت أوطانا روحية له، ويمكننا لتوضيح ذلك (مع الفارق طبعاً) أن نمثل بمسئولية الإنسان المباشرة تجاه والديه في رعايتهما وإطعامهما والإحسان لهما، مع أنه مطلوب بالإحسان لكل الناس، وإشباع جائعهم وكسوة عريانهم، ومساعدة ضعافهم.

ولعل هذا هو ما ينسجم مع مبدأ (الأقربون أولى بالمعروف) فالأم والأب أولى بمعروف الإنسان يلي ذلك عائلته ثم رحمه وقرابته ثم عشيرته فجيرانه ثم الأوسع فالأوسع إلى أن تصل النوبة إلى وطنه، وبعده تأتي مسئوليته عن بقية الأوطان والأمصار.

إننا حين نميّع حب الوطن، ونحلل أنفسنا من خصوصية وجودنا على ترابه، ونعفي ذواتنا من مبدأ (الأولى بالمعروف) فإن أموالنا العمياء ستنظر إلى «بنوك» الأرض بدرجة واحدة وستهرب إلى «البنوك» الأخرى وتستثمر هناك، لتبني معامل ومصانع ومتنزهات وحدائق وبنى تحتية، وإن كانت بلادها بحاجة إلى كل ذلك، وسيرتفع مستوى الدخل هناك وينخفض في بلدها، ويتقدم العلم هناك ويسود الجهل عن أهلها، بل ربما ترقد الأموال في حسابات «البنوك» في الخارج ببلايين الدولارات، ودولها مرهقة بالديون والفوائد التي تزداد تراكما عليها عاماً بعد آخر.

وحين ميعنا حب الوطن ولم نعطه الخصوصية المطلوبة إلى جانب حبنا لباقي بلاد الإسلام والمسلمين، تبددت ولاءاتنا السياسية في الداخل، وتمددت في الخارج لترتبط بالغرب الأجنبي أحياناً، وتلتصق بشعاراته الخادعة التي يحركها إعلامه وادعاؤه، وفي بعد آخر لا يقل خطرا على الوطن من الارتباط السابق، فإن هذه الولاءات وجدت ضالتها في أمراء المؤمنين - الذين لا تعمر إمبراطورياتهم الإرهابية إلا بهذه الولاءات الهائمة - كالملا عمر في أفغانستان والزرقاوي في العراق وغيرهما.

وحين تناسينا الوطن وأبعدناه عن أولوياتنا تلكأنا في فرحنا بالأعياد الوطنية، وفتر حماسنا عن إحيائها والاحتفاء بها كما يليق بمكانتها في نفوسنا، وسعينا لتأكيد الثبات والأصالة والتمسك بالقيم كمقابل تصارعي مضاد للوطن وحبه، وعلى هذه الأرضية زادت الهوة بين الوطن والدين.

وحين استهزأنا بالوطن وضعنا (مادة الوطنية) في المدارس في مكانة دونية لا يرتبط بها نجاح أو فشل أو حساب أو عتاب، وحينها لم يعن لنا شيء أن نعرف حتى الغيض من الفيض عن أوطاننا)، ولأننا لم ندفع لحب الأوطان تهربنا من بناء أوطاننا معتذرين بالتعب وارتفاع درجات الحرارة، وجبنا العالم كله، الهند وباكستان وسريلانكا وإندونيسيا والنيبال وغيرها من الدول بحثاً عن عمالة تسد هذا النقص، لتصنع لنا أوطانا زينت بأيدي الآخرين، ورويت من عرقهم وجهدهم واصطلائهم لشمسه وحرارته وبعد:

الآن وقد وصلنا إلى هذا المستوى يمكن أن نسأل أنفسنا بعد كل ذلك ماذا يعني الوطن لنا؟ وكيف ننظر إليه؟ وما هي علاقتنا به؟ بإيجاز غير خفي توحي به كل المقدمات السابقة والظواهر القائمة أن شريحة واسعة من أبناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتعامل مع أوطانها كفنادق ليس بينها وبينه أي ارتباط سوى الأكل والنوم، أما المشاعر والأحاسيس والولاءات فهي في بعد وانزواء تام عن ذلك، ذاك إذا أحسنّا الظن بها، وإلا فهي في عالم آخر، وعلى كل حال ففندقة الأوطان هذه أصبحت نظاماً وفنّاً عربياً وإسلامياً يمكن أن يدرس في كل جامعات العالم وبأرقى الشهادات والأوسمة

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1298 - الأحد 26 مارس 2006م الموافق 25 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً