الحبُ مشاعر إنسانية متدفقة، تحكمه في مجتمعاتنا الشرقية سلسلة لا تنتهي من المعايير والمستوجبات التي تقوده في الغالب إلى علاقة ارتباط دائم يقر بها المجتمع ويعترف، والمرأة والرجل بدورهما ينشدان فيها الدفء والاستقرار والمودة واستدامة فيض الأحاسيس. بيد أن الظروف المحيطة واختلاف المستويات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية تتقاذف تلك العلاقة، فضلاً عن التكوين النفسي والتربوي لكلا الشريكين، مضافاً إليه النظرة غير الواقعية التي تسيطر فيها الأحلام والآمال الوردية. فالالفة والعادات والسلوكات والتضحيات والتوقعات عالية السقف، والرغبات المتضاربة، وتدفق المسئوليات والفواتير وإيجار السكن، والكلف المعيشية، وتربية وتعليم الأبناء... إلخ، كفيلة بمجملها بخلق بيئة واقعية مضطربة وبعيدة عن عالم الأحلام، بيئة تستهلك الحب والمودة وتبعث على التوتر والاضطرابات، ولكي نخفف من ضغط تلك البيئة، يتطلب الأمر تعلم الغوص في علاقة الحب وتفكيكها بمنظار واقعي وبرغبة صادقة لتجاوز مطباتها وهمومها. «فيوليت داغر» المتخصصة في علم النفس وصاحبة الكتابات والأبحاث في ميادين مختلفة، لها رؤية ثاقبة تستند إلى تحليل نفسي واقعي لعلاقة المرأة بالرجل، تتطرق إليها بالتفصيل في الفصل الرابع من كتاب «المرأة والأسرة في المجتمعات العربية». الرؤية ترتكز على محورين رئيسيين تتناول في الأول منهما الحب وعلاقة الشركاء (المرأة والرجل)، وفي الثاني ما يجمع بينهما ويفرق.
في الحب
عن الحب والشراكة بين المرأة والرجل تقول: «لم تكن المرأة مسحوقة وضعيفة على مر التاريخ، إلا ان نتائج المنظومة البطريريكية قد انتزعت حقوقها وهيبتها، وما يعقد الوضع أن صورة الرجل عن المرأة تحمل المتناقضات والأضداد: الحب والكره، الحياة والموت، الخير والشر، النجاح والفشل، السيطرة والخضوع، العطف والنقمة، فهو يريد التحرر منها وفي الوقت نفسه يتكوم في كنفها، وعند خروجها عن طاعته تغدو بالنسبة إليه مخيفة وشريرة، إذ في قرارة نفسه يطالبها بالمبادرة وأن تكون محرضة، على شرط أن يبقى الآمر الناهي، ولكي لا تتحول حياتها إلى معركة مفتوحة، عليها أن تصمت وتغش، وتتلون وتنسجم مع محيطها ووضعها وصورتها لديه». وتستطرد داغر بالإشارة إلى «أن سلوكات الرجل والمرأة حيال بعضهما تنطلق من الصورة التي يكونها كل طرف في ذهنه عن الآخر والتي يجد نفسه فيها، والصورة ليست بالضرورة مطابقة لواقعه، ما تستتبعه اصطدامات مؤلمة»، وفي السياق ترى أن الاختلاف لا يولد التمييز الجنسي وهيمنة الأقوى، بل إنه الخوف من الاختلاف، إذ إن الفروقات كما تقول تفهم كتهديد للذات، وكلما ازداد قمع الرجل وزادت ثورتها ازداد خوفه ورغبته في السيطرة عليها، مشهد يتكرر في العلاقات الزوجية، بغض النظر عن كون الشريكين يتعايشان وأحيانا كثيرة يتحابان. وتتحدث عن الحب قائلة: «الحب عند البعض لا يدرك إلا بالبرهان، في حين لا يرى آخرون حتى من دليل عليه، وإنما مطالبات ببراهين على وجوده. والرغبة بالآخر ليست دليلاً على الحب، وفي مطلق الأحوال: يمثل الحب حاجة للآخر، ويحفظ التوازن الحيوي لدينا، إنه شيء يأتي من اللاوعي، ولا علاقة له بالمعرفة والعقل، وبعد اتقاده يأتي المنطق ليعطي معنى للحالة، ومن يحب لا يستعمل الآخر أو ينتقص من قدره ويضعه في وضع لا يتمناه لنفسه، وإلا لا يسمى ذلك حباً، إنما منفعة أو مصلحة أو رضوخاً لأعراف وتقاليد أو عقائد دينية.
ما يجمع ويفرق
بالنسبة إلى ما يجمع ويفرق بين الرجل والمرأة تضيف «يحتل الشريك أحياناً مكانة الأم والأب ويلعب دور المثل الأعلى الذي يعزز الهوية ويكمل الشخصية ويسمح بالتجدد واكتشاف الذات، فهو يرمز لصورة آتية من اللاوعي، نريده أن يكون نسخة طبق الأصل عن الذات أو مكملاً لها أو يشبه ما نود أن نكون عليه، أن يعكس لنا صورتنا في مرآته، صورة إيجابية أو مثالية عن ذواتنا، لذلك نتمسك به ونعمل ما بوسعنا للاحتفاظ به، نعلق عليه آمالاً، فيصبح الصديق والشقيق والطفل والوالدين بآن، نريده كامل الأوصاف ولا نقبل بظهور ضعفه، بيد أن هذه المرحلة من العلاقة تتبدل، وقد يتحول الحب أحياناً إلى مشاحنات وبغضاء وقد يؤدي إلى الإحباط الذي يستتبعه أخذ مسافة من الآخر، قد تبقى المودة وشيء آخر يكفي لإكمال الطريق، وعليه لابد من رؤية الواقع كما هو ليحل مكان الحلم، فتخيل الآخر حسب نوازعنا وحاجاتنا شيء والقبول به كما هو شيء آخر، لهذا فإن بداية العلاقة الحقيقة هي عند الانتقال للمرحلة التي يعود فيها الواقع لاحتلال مساحته اللازمة على حساب الرغبة.
تعتقد «فيوليت داغر» بأن العلاقة تجتاز ست مراحل متعددة تختلف مدتها ونوعيتها باختلاف الشريكين، وهي: «مرحلة الذوبان بالآخر، والشعور بالاختلاف والتمسك بالهوية، ثم الرغبة في التعرف على شيء آخر بمعزل عن الشريك، يليها التقارب من جديد بالآخر على أسس واضحة والاغتناء من العلاقة معه، ثم الشراكة بمشروع والاهتمام بتطور الآخر، وصولاً إلى خلق أشياء معاً كفريق عمل يكون فيها نفع للغير. وتنوه إلى أن استمرار العلاقة على رغم العواصف التي تجتاحها ستكون بلا شك مثمرة للشريكين، على خلاف البقاء القسري بحكم ظروف الأسرة أو التقاليد أو الدين أو ما شابه، وإن الصراع غالباً ما يكون بسبب فرض وجهة نظر الواحد على الآخر وذلك للتعبير عن العواطف أو إخفائها، أو لتأكيد الهوية وعدم فقدان تقدير الآخر، يحدث الصراع، لأنهما لا يستمعان إلى بعضهما ولما يقوله الآخر، بل يتبادلان الاتهامات ويعمدان إلى رد الكيل كيلين، فاتهما أنهما تغيرا مع الوقت والتجارب وأنه كان عليهما الاستماع إلى بعضهما ليكتشف كل منهما الآخر كما أصبح»، ومن ناحية متصلة تؤكد أن هذه الخلافات ترافقها مشاعر وعواطف جياشة من الحزن والغضب والشعور بالخزي، يحاول الشركاء إخفاءها خوفاً من الظهور بمظهر الضعيف، ولو تم التعرف عليها وشرحها للآخر لعرف كيف يتعامل معها بفعله ولما اضطر ربما أن يحتمي منها بردها للآخر.
أما أسباب الخلافات، فتشير إلى أحدها، كون الرجل والمرأة شخصين مختلفين، وقد لا يملكان المفاهيم نفسها والرؤية للحب نفسها ولا الرموز المسلكية أو اللغوية نفسها للتعبير عنه، غالباً ما تتكلم المرأة أكثر من الرجل كونها تتكلم بصوت عال، وعندما يصمت تعتبر ذلك قلة اهتمام بما تقوله، لذلك فإن الصمت ضار والكلام يفيد في معرفة الآخر وما يريد أو لا يحب، المرأة تعبر عاطفياً عن مواقفها من الحوادث وتقيّم الأشياء بمشاعرها، في حين ينقل هو الخبر موضوعياً ثم يغدق النصائح أو يحاسبها ولا يعرف كيف يصغي إليها، ويمكن لذلك أن يصعد من التوتر والشعور بعدم التفهم وبالوحدة. المرأة تعتقد أنه من علامات الحب قراءة رغباتها من دون التعبير عنها كي لا تضع نفسها في وضعية المطالب، كذلك عندما تحاول أن تدفع حياتها إلى الأفضل أو أن تطور شريكها بالتدخل بأشياء تخصه لتغييرها، يعتبر هو أنها تحاول السيطرة عليه أو إهانته ويريدها أن تقبله كما هو.
تكشف من خلال دراستها عن نقاط مثيرة «ان المرأة لا تستطيع الفصل بين ما يحصل في جسدها وفي رأسها في حين أن ذلك ممكن عند الرجل، فلكي تهب جسدها له يجب أن يمر ذلك عبر رأسها، وهي لا تتخلص من مشكلاتها على الوسادة بسهولة، كما يمكنه هو أن يفعل، لكن لكي تتفتح شهوة الرجل يجب أن تبان الرغبة عند شريكته، إذ إن امرأة غير مبالية بالوصال لا يمكن أن تتمتع أو أن تمتع. وإن كان هو يغلب حاسة النظر فهي تغلب السمع واللمس، إنها بحاجة إلى سماع كلماته الرقيقة والإحساس بلمساته تداعبها ما يشعرها بأنه يريدها هي بالذات وليس كأية امرأة أخرى، عند ذلك يمكن أن تتحرك رغباتها فما يحركها ليست الرغبة الجنسية بحد ذاتها إنما ما يرافقها من وجود وما تعطى من وقت».
الاختلاف لا ينفي الحب
وتتوصل إلى أَنّ الاختلاف لا يعني انعدام الحب، إنما قد يفهمه الآخر وكأنه تهديد بقطع العلاقة، فالمشكلة كما توضح تكمن في عدم الاستماع، ولجوء الشريك إلى تبرير نفسه ما يعتبره اتهاماً له، فضلاً عن عدم أخذ ألم الشريك على محمل الجد وبالقدر الذي يستحق، لذلك فكلما بقي مصدر الألم قائماً، يبقى الجرح نازفاً ويتكرر وكذلك العراك والأزمات. ومن طرفها تنبه إلى أن العلاقة التي يلعب فيها أحد الشريكين دور المعالج للآخر بحيث يشعره بتفوقه عليه وحاجته له، لا تستمر لأن الإنسان يتغير مع الزمن ولا يقبل الاستمرار في وضعية الأضعف، بيد أن الأقوى لا يرتاح إلى هذا التغيير ويخاف من استغناء الشريك عن خدماته، وهذا ما يجعل البعض بحاجة للمساعدة، في حين يحل الآخرون مشكلاتهم بأنفسهم ومن دون تدخل طرف ثالث، لكن ذلك يفرض مستوى عاليا من الوعي والحكمة والقدرة على النقد الذاتي والتحليل والرغبة بالإصلاح والقبول بالتنازل عن أشياء مقابل الحصول على أخرى. وتختتم رؤيتها بالخلاصة الآتية: «عندما يكون أنا وأنت يساوي نحن، يفترض ألا يقمع الـ «نحن» الـ «أنا»، بل يدعها تتنفس بعدم التضييق عليها ومساعدتها على تأكيد هويتها وإيجاد توازنها، الحق في الاختلاف قد لا يعيره البعض الاهتمام الذي يستحق أو يخافونه لأنه يسمح بالابتعاد والتفرد ويخفف من غلو السيطرة على الآخر، لكنه يمنع الهواء الضروري لتجدد العلاقة».
في واقع الأمر، إن المعطيات السابقة تساعد المرء على استنهاض بهجة الحياة والسعادة التي فقدت في خضم المراحل الست التي أشارت إليها فيوليت داغر وهي تعني، بل وتستوجب تجدد دماء علاقة المرأة بالرجل، تلك العلاقة التي لن تكتمل فصولها المقبلة من دون تحسين النظر إلى الأمور والإشكالات، من دون التواضع والصبر والتسامح والعطاء والحكمة، وغمر قلوبنا بالنور وتغذيتها بالحب وشيء من الورد والياسمين. إذ ليس ثمة ما هو أروع من كلمة «أحبك»، فلا تبخل بها على الشريك
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1292 - الإثنين 20 مارس 2006م الموافق 19 صفر 1427هـ