قد يوحي عنوان المقال بأن ثمة نيّة لإجراء مقارنة بين ما آل إليه الوضع في العراق، الذي أراد له أعداؤه وكارهو الخير له من الداخل والخارج ومساهمتهم في غرس عوامل تفتيت الوطن الواحد، و«نجاحهم» في جر الأوضاع لبلوغ ذروة التطاحن الطائفي، وصولا إلى شفير الهاوية، وبين ما أنا بصدد الحديث عنه هنا. لكن ليس ذلك ما أردت، كما ألا وجه للمقارنة البتة، لا من حيث الأسباب، ولا بما ينطق به المشهد الدامي، ولا من حيث التباسات الوضع السياسي. ولكنني أردت أن أجتهد في البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا المستوى من الانحدار في مستوى العلاقات الإنسانية بين أشقاء الوطن الواحد، لتكون خاتمة ضاجة بالكراهية ومتوجة باقتتال طائفي يطول الأبرياء من كلتا الطائفتين، ومقاربتها بأوضاعنا التي لا أراها تسير وفقا لما يريده الطيبون من أبناء هذا الوطن، ولكنها تذهب مسرعة وفقا لانعكاسات آنية قادمة من العراق، ترمي بصورها في التو والحال في الواقع البحريني الذي يحبل بالمتطرفين الطائفيين من المذهبين، السنّي والشيعي، الذين يتهيأون لالتقاط كل ما من شأنه أن يعوق المسيرة الوطنية، كل بحسب أجندته الطائفية ورؤيته المستقبلية للوطن، التي، بالضرورة، لا تلتقي مع ما يطمح إليه المواطن من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وخصوصا أن هناك الكثير مما يجمع بين البلدين من المتماثلات والمتشابهات التي ترتسم على تضاريس أكثر من خريطة تنعكس سلوكا اجتماعيا وممارسة طائفية نستشعر بعضا من صداها في صرير أقلام كتاب يتقيأون حقدا طائفيا ويمارسون أفظع أنواع التحريض ضد الآخر المختلف، غير عابئين بمشاعر الناس، متوهمين أن الحرية تتيح التطاول على خصوصيات الآخر وكرامته، وكأن الوطن عندهم صار مرادفا للغابة. وما يبعث على الغرابة في هذه اللغة الجديدة والجريئة في آن هو البوح الصريح عن مطالب فئوية ومذهبية لم يعتد عليها المواطن ولم تألفها مسامعه في شكل استغاثات مذهبية تستجدي الفزعة ضد المذهب الآخر، أو بإنزال عقوبة حكومية، أو التحريض عليها، على متظاهرين، والمفارقة هنا أن فئات مجتمعية صغيرة، لكنها ممتلئة ضغينة وحقدا، ضاقت ذرعا بالديمقراطية والحكومة مازالت والحمد لله لا تعير التفاتا لهكذا مطالبات موتورة، تدعي كمالا وطنيا وهي بذلك تتستر بالوطنية لإخفاء عيب مذهبي مقيت. وهذا، حقيقة، يبعث على التوجس ويغرس الخوف في قلوب المواطنين الآمنين. وخلال البحث عن الأسباب التي أدت إلى تفاقم الوضع السياسي تيسّر لي الوقوف على جملة من الأسباب منها: الغبن الذي لحق بالشعب العراقي بجميع طوائفه وأعراقه وإثنياته، واللامساواة في توزيع ثروة البلاد، وبروز التعبيرات عن المصالح الطائفية في معزل عن الصالح الوطني العام، وحرب أميركا على الإرهاب التي خلطت الأوراق على الساحة العراقية وخلق عداء صارخ بين الطائفتين السنيّة والشيعية، وغيرها من الأسباب وما وجدت أظهر من التمييز بجميع أشكاله الطائفي، العقائدي، والعنصري والجنسي.... الخ، سببا رئيسيا ظل يجوس في الوسط الاجتماعي مستثمرا بنرجسية عالية من قبل الحكومة العراقية المخلوعة في العام 2003، والأحزاب الطائفية التي كانت تعمل تحت الأرض، الأمر الذي استزرع في البنية المجتمعية بذور الطائفية التي أضحت عنوانا لكل الصور الدموية التي تنبئ بالخطر.
فالتمييز بجميع أشكاله مظهر من مظاهر الفساد السياسي القاتل، وفعل خلا من الحس الإنساني لجهة استبعاده للآخر المختلف، يعتلي المرتبة الأولى في المنظومة السببية التي تفتك بالوحدة الوطنية، وتهيئ لاحتراب أهلي. وهو محرض قوي لسيادة عدم الاستقرار السياسي، فضلا عن أنه يتيح مجالا لانتشار الآفات الاجتماعية التي يستقر بها المقام لتنخر في النسيج الاجتماعي، محدثة به عطوبا يسهل اختراقها، وبالتالي التأثير فيها انتهاء إلى حال من الغليان والانفلات الأمني اللذين يطيحان بركائز الوحدة المجتمعية.
والتمييز تمارسه دول ضد أخرى، كما تمارسه طائفة ضد طوائف أخرى، وأفراد ضد أفراد آخرين، وتمارسه حكومات ضد شعوبها، وهذا النوع الأخير من التمييز هو الذي نود تناوله ومناقشته.
فهل نحن، حقا، نعيش واقعا تمييزيا طائفيا كان أم عقائديا أم عنصريا أم جنسيا؟ الواقع لا ينفي ذلك كما لا يقره، ولكنه بحسب ما أرى، يقول الآتي: ان البحرين من بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني وإجراء الانتخابات البلدية ومن بعدها النيابية وما صاحبها من حوارات قسمت المواطنين، أو للدقة الشريحة المثقفة منهم، إلى مشاركين ومقاطعين، واستقرار الوضع على خيار التمثيل الشعبي الذي تم في العام 2002، بنسبة مشاركة بلغت 53,48 في المئة. وانتقل التشريع من بعدها إلى ممثلي الشعب، والذين يفترض أن يكونوا على مستوى عال من الكفاءة والخبرة في ملامسة أوجاع الناس وهمومهم، ولكن بعد أن تقسّم المواطنون إلى مشاركين ومقاطعين، يبدو أن أصحاب الكفاءة التقطتهم الحكومة بتعيينهم أعضاء في مجلس الشورى، الغرفة الثانية في المجلس الوطني، مستثمرة خبرتها في ذلك، وتوارى جزء كبير من الخبرة تحت ظلال المقاطعة، نأمل استثمارها مع القليل من عناصر البرلمان الحالي في الانتخابات المقبلة. وأضحى المجلس، بحسب تجربة ما يقارب الأربع سنوات فضاء يستظهر ممثلو الشعب، في جزء كبير من وقته، قدراتهم في تسجيل مكاسب ذاتية، والجزء الآخر أظهروا انتماءاتهم الطائفية والدفاع عنها عبر تناول ما يتساقط على الساحة الوطنية من المؤثرات الخارجية عموما والعراقية على وجه الخصوص. فهل منا من لحظ اهتماما نيابيا بتعقب مصادر التمييز والعمل على جعلها من أولويات تقصده ومعالجته والإلحاح في تصدير اقتراح بقانون بشأنه.
وأعتقد أن في هذه الحال العيب ليس في التجربة ولكن في ممثلينا الذين أوصلناهم إلى مقاعد البرلمان بإرادة محضة كاملة. فالشعب هو الذي يصنع المواقع النيابية، وهو الذي يلغيها إذا ما أظهرت فشلا ليعيد صناعتها مرة أخرى، والأمل كبير في فعل ذلك في الانتخابات المقبلة.
والحقيقة ان التمييز إذا ما كان موجودا في الممارسات الحكومية فان محاربته مفتوحة ساحته، مكفولة ممارسته دستوريا، وإذا ما استمر فإن التقصير يقع على عاتق ممثلي الشعب ومؤسسات المجتمع المدني. وإذ نقول التمييز فإننا لا نقصد التمييز الطائفي فقط ولكن التمييز بجميع أشكاله من دون تخصيص.
العدد 1289 - الجمعة 17 مارس 2006م الموافق 16 صفر 1427هـ