بينما كانت وزارة الخارجية الأميركية، تذيع في الأسبوع الماضي، تقريرها السنوي عن حال حقوق الإنسان في العالم، حاملا انتقادات شديدة وكثيرة، لحالات تدهور الحريات العامة في معظم الدول العربية كالعادة، كان نفر من أبرز نشطاء حقوق الإنسان والمسئولين العرب، يجتمعون في العاصمة القطرية (الدوحة)، لبحث عنوان كبير هو ثقافة حقوق الإنسان، وتحته تندرج موضوعات أخرى ترتبط بالإصلاح الديمقراطي المتباطئ والمتلكئ!
وعلى رغم انشغال الجميع هذه الأيام بملفات ساخنة مختلفة، تلهب الساحة من حولنا، من أزمة دارفور جنوبا، إلى أزمة العراق شمالاً، مروراً بالأزمة الفلسطينية، وتلك اللبنانية السورية، فإن ملف الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي، يظل الأكثر جاذبية والأشد إثارة للجدل!
لقد تصور بعض المثقفين والسياسيين، أنه إذا كانت الملفات الساخنة المذكورة، معقدة ومستمرة ومزمنة، يصعب حلها على الفور، ومن ثم يمكن التعامل معها بمنطق التسويف والترحيل والتأجيل، فإن التحول والإصلاح الديمقراطي هو الملف الأسهل، والأكثر قابلية للتطبيق الفوري.
ولم يكن ذلك التصور المتفائل، نابعاً من سذاجة مفرطة، بقدر ما كان نابعا من أمل متسرع، سرعان ما اصطدم بحائط الوهم مع العجز، عن إحداث التغيير المنشود، فدونه عقبات كبرى ومصاعب عظمى، يمكن تلخيصها في أن «فلسفة الحكم» في بلادنا السعيدة فلسفة عنيدة، ترفض التجديد والتغيير، وتتمسك بالقائم المستقر حتى لو تجمد وتكلس، وعلى المتضرر أن يضرب رأسه بأقرب حائط ليدميه!
لقد تمرست حكوماتنا الرشيدة في لعبة شد الحبل هذه، وراكمت خبرات عظيمة في مقاومة التجديد والتغيير، إلا ما يصادف هواها، وراوغت طويلاً المطالب الشعبية الداخلية، والضغوط الخارجية، لتجد في النهاية أنها وصلت إلى ما تريد هي لا ما يريد الآخرون، إذ يبقى الحال على ما هو كالقدر المؤجل.
شيء من هذه الرؤى والتحليلات، شغلت مؤتمر ثقافة حقوق الإنسان، الذي شاركنا فيه خلال الأسبوع الماضي، تحت رعاية منظمات الأمم المتحدة المعنية والمهمومة بهذا الأمر الحيوي في عالم اليوم... إذ لم يكن مفاجئاً لي ولكثيرين ذلك الانقسام الحاد والواضح ين طرفين داخل المؤتمر، بشأن حال حقوق الإنسان العربي!
انقسام حاد وواضح ميز المواقف الرسمية عن المواقف الشعبية، كل يغنّي على ليلاه ويعزف اللحن الذي يرضيه، حتى لو لم يقدم الفكر الذي يقنع المخالفين له، ففي حين هاجم ممثلو المنظمات الأهلية لحقوق الإنسان بعنف شديد الأوضاع المتدهورة للحقوق وللحريات العامة في الدول العربية، وقدموا الشهادات والدراسات والدلائل، لإثبات ما يدعون، سارع ممثلو المجالس الحكومية واللجان الوطنية «الرسمية» لحقوق الإنسان لإعطاء صورة عكسية وشهادات مناقضة، بينما وقف ممثلو المفوضية السامية لحقوق الإنسان والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، يحاولون التوفيق والتوليف، أملا في أن ينتهي المؤتمر وفق الأجندة التي جاءوا بها!
ومنذ الجلسة الأولى للعمل، بدأت تقارير اللجان الوطنية والمجالس القومية، تتوالى طارحة صورة وردية، أو هي أقرب، ولو شابها انتقاد هنا أو هناك، فهو هين لين خفيف طريف، هكذا جاءت تقارير اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بالجزائر، والمجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر، والمركز الوطني في الأردن، والمجلس الاستشاري بالمغرب، واللجنة الوطنية بقطر، والجمعية الوطنية بالسعودية، واللجنة العليا لحقوق الإنسان والحريات المدنية في تونس وغيرها.
قلت لزميلي الجالس إلى جواري، مع بدء تلاوة هذه التقارير الروتينية التجميلية، أستطيع أن أتنبأ لك بما سيقوله هذا، وما يدعيه ذاك، ولن نسمع في هذه المكلمة شيئاً جديداً أو تطوراً مفاجئاً، فقد حضرت نحو 50 مؤتمرا واجتماعاً وندوة عن حال حقوق الإنسان، خلال السنوات الأخيرة، ولايزال الكلام هو الكلام، والجدل يراوح مكانه... أبدى الرجل استغرابه، فصمت منتظرا النتيجة.
غير أن ممثلي المنظمات الأهلية «غير الحكومية» العربية لحقوق الإنسان، أضفوا على المكلمة حيوية مثيرة، حين صبوا على التقارير الروتينية أنهاراً من الماء البارد، لشتعل المناقشات والخلافات، وخلاصة الموقف أن الطرف الأول يصر على أن الحكومات العربية، أو معظمها، يحترم حقوق الإنسان ويطور أسسها ويطلق الحريات ويصلح الأوضاع، ويندفع باتجاه الإصلاح الديمقراطي من دون تردد!
بينما ممثلو الطرف الثاني يقولون العكس، مستشهدين بانتهاكات فظة لحقوق الإنسان في كل بلد، من مصادرة الحريات الأساسية، والتضييق على حرية الصحافة والرأي والتعبير، وفرض العقوبات السالبة للحرية، وتحريم نشاط الأحزاب السياسية، إلى المعتقلات والسجون السرية والعلنية. المعبأة بآلاف من البشر المنسيين وسجناء الرأي إذ يمارس التعذيب بطرق منهجية منظمة مستمرة، حتى قال أحد المتداخلين، إننا لو أحصينا من نعرف أسماءهم من المعتقلين، في السجون العربية، لذكرنا مئات الآلاف، فما بالك بمن لا نعرف عنهم شيئاً في ظل الإخفاء القسري المتعمد!
أخطأ أحد أبرز ممثلي منظمة أهلية، حين كان يتحدث عن انتهاك الحريات العامة، فاستشهد بما يجري في بلد عربي معين ذكره بالاسم، فإذا القاعة المليئة بمن جاءوا للحوار حول الحريات، تنقلب إلى معركة ساخنة عاصفة، قادها طبعاً ممثلو تلك الدولة، دفاعاً عن نظامهم «الأكثر ديمقراطية منكم» مذكراً المتحدث المتطاول، بأن بلاده لا تصادر الحريات ولا تعتقل ولا تعذب، بل «إن كل شرطي مكلف قانونا بان يحيي كل مواطن في الشارع يمر به تقديرا واحتراما».
وعلى رغم سخونة الجدال الصاخب، وتطاير الاتهامات بالجهل والعمالة لجهات معادية، أو الكذب والادعاء، ضجت القاعة بالضحك الساخر من حكاية الشرطي الذي يحيي كل مواطن، لكن بقي لدينا السؤال، بأي شكل وبأي وسيلة يحييه!
ربما تعكس هذه الصورة الهزلية، حال الانقسام السائدة بين دعاة ونشطاء حقوق الإنسان، في عالمنا المتعطش لحقوق الإنسان، مثلما تعكس حال ضيق الصدر وانسداد قنوات الحوار الصريح بين هؤلاء النشطاء، جنبا إلى جنب مع غياب قيم الحرية والاجتهاد وحرية التعبير، فإن كان هؤلاء على هذا النحو من معاداة الحرية ومخاصمة الحوار، فلماذا نعيب على غلاة الرسميين، وخصوصاً دعاة الاستبداد والفساد إن هم قمعوا حريتنا!
حين كان المؤتمر يجري نحو ختامه في اليوم الثالث، على ما أراده المنظمون، وصولاً للنتيجة الروتينية المطلوبة، طرح اقتراح عقد المؤتمر القادم، مكانه وموضوعه... تم الاتفاق على المغرب مكانا، وعلى «استقلال القضاء» موضوعاً للنقاش، وأراد رئيس الجلسة الختامية، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، ان يكتفي وينهي الجلسة، لكن المناقشة انفتحت والتعليقات والتدخلات توالت...
من جانبي، قلت في تدخلي الأخير، لقد استمعت إلى تقارير اللجان الوطنية والمجالس القومية «الرسمية وشبه الرسمية»، واندهشت لأنها في معظمها تعطينا صورة وردية مضيئة عن حقوق الإنسان المصانة المحترمة في بلادنا... فإن كان الوضع هكذا، فلماذا عقد هذا المؤتمر وأشباهه التي تعمل على نشر وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، ولماذا الشكوى المريرة من انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة الحريات العامة، والاعتقالات والمحاكمات، ومصادرة الصحف وسجن الصحافيين والسياسيين والنشطاء، لماذا إذن الشكوى من كل هذا، لابد أن شعوبنا الشريرة، تدعى على حكوماتها بالباطل!
ومن ناحية المؤتمر القادم، فإن اختيار المغرب مكاناً، هو أحسن اختيار لأفضل مكان يتمتع بصحوة حقيقية لحقوق الإنسان وحيوية سياسية تحركها انطلاقة للحريات، لكنني على رغم تقديري لموضوع استقلال القضاء، باعتباره ملجأنا وملاذنا، فإن هناك موضوعات أكثر إلحاحاً الآن، مقترحاً أولاً موضوع حرية الصحافة والرأي والتعبير في إطار حقوق الإنسان، إذ الصورة قاتمة والانتهاكات تتزايد يوماً بعد يوم، والعقوبات السالبة للحرية، خصوصاً عقوبة الحبس في قضايا النشر، تتصاعد، بدرجة تستدعي من نشطاء حقوق الإنسان وقفة حاسمة عاجلة.
ثم اقترحت موضوعا ثانيا أحق بالنظر فيه خلال المؤتمر القادم، وهو حال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، التي تعاني التدهور السريع، والدليل. كما تقول تقارير التنمية البشرية الموثوق بها، ان نسبة الأمية في الدول العربية مازالت عند حاجز 52 في المئة، وان متوسط البطالة يصل إلى ما فوق 25 في المئة وان 48 في المئة من مجموع العرب تحت خط الفقر، وان الفساد يستشري بوحشية متحالفا مع الاستبداد، في ظل غياب الشفافية والمحاسبة والمراقبة والمساءلة.
ران الصمت على القاعة الممتلئة بالمتعجلين انصرافا من الجلسة الأخيرة، اللهم إلا من تعليقات متناثرة، مؤيدة لاقتحام الملفات الأسخن والأعمق والأكثر إلحاحاً والأفضل أولوية.
لكن رئيس الجلسة استاذنا بطرس غالي، ضرب على طاولة المنصة بعنف قائلاً، لقد انتهى النقاش وحسم الأمر وتمت الموافقة، هكذا تم غلق باب الحوار وحرية الاختيار، بين المهم والأهم، الملح والأكثر إلحاحاً.
بعد انفضاض الجلسة، قلت لبطرس غالي مداعباً، لقد عدت يا سيدي مرة أخرى إلى سلوك المدرس مع تلاميذه، حين يضيق صدره بهم وبأسئلتهم! وانتهى الدرس.
خير الكلام:
يقول عمر بن الخطاب:
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1286 - الثلثاء 14 مارس 2006م الموافق 13 صفر 1427هـ