«بالروح بالدم نفديك يا... فلتحيا الأمة العربية حرّة مستقلة، عاشت فلسطين حرّة، المجد للأحرار...»، إلى آخر ذلك من شعارات تُفتتح أو تُختتم بها البيانات التي تصدر في عالمنا العربي، والتي تشمّ منها رائحة يد عتيقة تعوّدت الكتابة منذ سنوات بالنسق نفسه، ولربما وُجدت مثل هذه الشعارات في مسيرات واعتصامات وتجمعات، تهتف بها حناجر عاشقة لحدّ الموت والبذل تارةً، وتارةً تصدر من قلوب ترتجف وتضطرب، تهتز حناجرها وهي تتلمّس أعناقها بأظافر خشنة جشبة لتتخيل حد السيف...
كلما سمعت شعار «بالروح بالدم نفديك يا...» تعلو شفتي البسمة، وأجدني متردداً في المشاركة الإيجابية مع تلك الحشود، وتعنّ في خاطري وذهني عبارة أنقلها بتصرف عن أحد الكتاب الذين لفتت نظرهم هذه الظاهرة، فكتب يصفها: «في الشرق العربي ملايين البشر ممن يرددون هذا الهتاف الرغوي، ربما من دون إدراك لمغزاه الحقيقي... شعار ينطلق من الجماعة صوب الفرد، وهو إنما يقلب رأساً على عقب كل معارفنا عن النظام التضحوي الأسطوري... الجماعة هي التي تنذر دمها في سبيل الفرد... إنه قربان جماعي مقدّم هذه المرّة على مذبح فرد متحول من أضحية إلى إله»، فبعدما كان هذا الفرد مستعداً لبذل نفسه قرباناً للمجموع تحوّل بشكل دراماتيكي إلى مقدس تذبح القرابين في سبيله حسبما يقول هذا الباحث.
إن الشعاراتية سمة بارزة تطبع بيانات وشعارات ومظاهرات وبرلمانات المجتمعات العربية بطابع يبدو مع حالة الهيجان الجماعي مقنعاً بل وواجباً، إلا أنه يثير السؤال مع أول طلقة في الهواء: أنحن مع فلان حقاً! هذا فيما إذا كان الشخص مخلصاً، أما إذا كان حاكماً مستبداً ودكتاتوراً ظالماً، فإن الشعب إذا كان طائعاً ومستعداً لبذل نفسه وماله وأهله بل ودينه في سبيل الفرد/ الإله، فحري به ألا يُجهد نفسه بالصيام أو الصلاة، وحقّ له أن يأكل في نهار شهر رمضان كما فعل حميد بن قحطبة الذي قتل - كما في صحف السلطة الصادرة في الزمان الغابر - ستين علوياً من أحفاد رسول الله (ص) في ليلة واحدة وبسيف واحد!
إن السؤال يطرح نفسه مراراً تكراراً، ولاسيما بعد فترات الهدوء وعودة التفكير المتأمل: هل غدت الشعارات الحدية والصارمة والقاطعة في دلالاتها، والمعبرة عن الاستعداد المطلق للفداء والتضحية والمواصلة، هل غدت مجدية وصالحة للاستخدام، أم هي بحاجة إلى ترشيد؟ وحتماً كلنا يذكر المسيرات التي كان يطلب فيها علماء الدين من الجمهور المحتشد المنفعل تهذيب شعاراته، لتنطلق في أفق الإسلام وروحه فقط وفقط، بالابتعاد عن بذيء القول.
مع كل شعار يجدر بنا التأمل والنظر في مدى مناسبة هذا الشعار للواقع المعاش، هل لايزال هذا الشعار مجدياً فعلاً؟ أم نحن بحاجة إلى عقلنته أكثر فأكثر، وفقاً لدراسة فاحصة لواقعنا الحياتي، وللظروف المحيطة بنا
العدد 1284 - الأحد 12 مارس 2006م الموافق 11 صفر 1427هـ