يضاعف المسئولون الليبيون، في طليعتهم العقيد القذافي، من التصريحات التي تؤكد التحرر الاقتصادي والانفتاح السياسي. لكن، في الواقع، تبقى القطاعات الأساسية مغلقة بوجه الاستثمار الأجنبي، في حين يشدد النظام من قبضته على الحياة السياسية. أما فيما يتعلق بالتعديل الوزاري الموسع الذي تم الإعلان عنه يوم الأحد الماضي، فإنه لا يعدو سوى تغيير إضافي ضمن الاستمرارية.
لا الملاحظات، ولا الكلمات المتقاطعة التي استخدمها قائد الثورة الليبية في مداخلاته، منعت النقاشات العاصفة التي دارت داخل مؤتمر الشعب العام (البرلمان) الذي ظل منعقداً طوال شهر فبراير/ شباط الماضي بمدينة سرت. فرئيس الوزراء شكري غانم، الذي تم تكليفه حديثاً بإدارة قطاع النفط، كان طوال الجلسات في وضعية الهجوم، واضعاً جانباً التوازنات الداخلية والحسابات الشخصية. السبب: تدفق نحو 3280 زائراً يومياً على موقعه الإلكتروني، جميعهم يطالب بمحاسبة اللجان الثورية ورموز السلطة الجماهيرية الذين، بحسب رأيهم، «اغتصبوا خيرات البلاد طوال عقدين ونيف من الزمن»، باستشهاد الوزير الأول بهذا البريد «الشعبي» كان كافياً لاستفزاز خصومه على الساحة ممن لم يتوانوا عن الترداد بأنهم سينالون منه عاجلاً أم آجلاً.
في هذا السياق، هل يمكن اعتبار التعديل الوزاري الموسع، المعلق عشية الأحد في الخامس من الشهر الجاري والذي أدى إلى «إبعاد» شكري غانم من رئاسة الوزراء، بمثابة انتصار للمتشددين والمتصدين لنهجه في تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي ومحاولات الانفتاح السياسي على سُبيتها.
على ذلك، يرد المراقبون الأكثر اطلاعاً في طرابلس الغرب بالقول إنه من الواقعية النظر إلى هذه المسألة بشكل مختلف. الدليل، أن العقيد القذافي ومن ورائه، مؤتمر الشعب العام (البرلمان) قد كلفوا الوزير الأول السابق بإدارة «شركة النفط الوطنية»، بمعنى آخر، الدجاجة التي تبيض ذهباً للنظام. كما ويذهب البعض منهم إلى التأكيد أن شكري غانم سيحل تدريجياً مكان، عبدالله سالم البدري، - المريض كما يقال والذي ناهز سن التقاعد - أبرز مستشاري القائد في المجال النفطي.
بناء على هذا الواقع، فإنه لا يمكن إدراج هذا التعديل الأخير إلا في إطار «التغيير من ضمن الاستمرارية»، كما هو جار منذ عشرات السنين في بلاد «الكتاب الأخضر». وبالتالي، فإن غانم لم يفقد أبداً الخطوة، كما يحاول خصومه الترويج لذلك الآن، لأن هذا الأخير نجح في أواخر شهر يناير/ كانون الثاني الماضي من إقناع مجموعة «أوازيس» (الواحات سابقاً)، والمؤلفة من أربع شركات نفطية أميركية عادت حديثاً إلى العمل في ليبيا بعد رفع الحظر، لتسديد مبلغ عشرة مليارات دولار مصروفات للحفاظ على حقوق التنقيب والإنتاج المجمدة طوال أكثر من عقدين. مبلغ يتجاوز الـ 6,4 مليارات دولار التي دفعتها ليبيا لعائلات ضحايا تفجير طائرة «البانام» الأميركية فوق مدينة لوكربي. فهذا النوع من العمل الناجح لا يمكن إلا أن يُكافأ عليه غانم من قبل رئيس الدولة الليبية.
من ناحية أخرى، يعتبر الخبراء في الشئون الليبية أن تسليم الطبيب، البغدادي المحمودي، حقيبة رئاسة الوزراء، على رغم كونه نائباً لغانم، يعني أن السلطة قد قررت إعطاء الأهمية والأولوية مجدداً للشأنين السياسي والأمني. فحوادث بنغازي الأخيرة قد أحيت، على ما يبدو، أحاسيس الحذر التي كانت سائدة في الماضي. كما دفعت بالقيادة الليبية إلى اكتشاف ضرورة استباق حوادث مماثلة والالتفاف عليها سلفاً، ذلك، عبر الاهتمام المتزايد بالأوضاع الاجتماعية التي كانت من الأسباب التي زادت من عنف المواجهات مع رجال الأمن، والتي أدت إلى مهاجمة المراكز الحكومية بما فيها مستشفى بنغازي المركزي. فرد الاعتبار إلى الوزارات مثل وزارة الإسكان والمرافق عبر تكليف أبوزيد دوردة (رفيق العقيد القذافي منذ ثورة الفاتح من سبتمبر 1969)، ووزارة الصحة والتعليم العالي والاقتصاد، بعدما كانت تحت إشراف اللجان الشعبية، تعكس التوجه الجديد الأصل.
عمدت الحكومة الليبية منذ يونيو/ حزيران 2003 على خصخصة قطاعها العام الذي يمثل نحواً من 75 في المئة من ناتج الدخل القومي الإجمالي. كما بحثت عن كيفية جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة التي لا تتجاوز الـ 700 مليون دولار، فطرابلس الغرب تتمنى، كما أعلن بعض المسئولين، الحصول على 30 مليار دولار على شكل استثمارات في قطاعها النفطي بهدف زيادة إنتاجها بنحو 40 في المئة خلال خمس سنوات. فالعرضان الناجحان اللذان أطلقتهما خلال العام 2005، يمثلان جزءاً من هذه الاستراتيجية القائمة على تنويع الشركاء. فعودة «أوكسيدنتال بتروليوم»، كذلك «كونوكو فيلليبس» و«أميرادا هاس» و«ماراثون»، المجتمعة تحت لواء كونسورسيوم «أوازسيس»، شجعت السلطة في الجماهيرية الليبية على إعادة النظر والتفكير في تحرير الاقتصاد. مع ذلك، فإن قطاع الطاقة لن يفتح في الواقع - على الأقل في هذه المرحلة - أمام الاستثمار الأجنبي. في هذا الإطار، يشير المستشار النفطي للعقيد القذافي عبدالله البدري، إلى أنه من السابق لأوانه سلوك طريق الإصلاح المعتمد من قبل الجيران الجزائريين الذين صوتوا في العام الماضي على مشروع القانون المتعلق بالهيدروكربورات. فعملية الإغلاق هذه تشمل قطاع الاتصالات والإسمنت.
في المقابل، هنالك عدة مجالات ستفتح أمام المشاركة الخارجية. ويتعلق الأمر خصوصاً بقطاعي السياحة والمصارف. فالبنسبة إلى الأول، لا قي الانفتاح نجاحاً بحيث دخلت القطاع مجموعات سويسرية وإيطالية وحتى بريطانية. أما القطاع الثاني، فلاتزال علامات الاستفهام تدور حوله وخصوصاً أن القطاع المصرفي يعتبر قطاعاً سيادياً. لذلك، لا يمكن السماح بسهولة للمجموعات المالية الأجنبية ولوجه. ذلك، حتى ولو أن العقيد القذافي قد دعا، على هامش أعمال مؤتمر الشعب العام إلى إنشاء مصارف خاصة في ليبيا.
ويرى المحللون الماليون أن خيارات الانفتاح الاقتصادي يصعب الرجوع عنها، وخصوصاً بعد أن قدمت ليبيا طلباً للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وبعد أن قُبل طلبها هذا، فمن المنتظر أن تبدأ من الآن وصاعداً جولات من المفاوضات مع عدد من الدول بهدف تسهيل عملية الانضمام هذه. وفي محاولة لاستباق الخطوات المطلوبة، تقوم السلطات الليبية المختصة بتشجيع موظفي القطاع العام على التوجه نحو القطاع الخاص، إلا أن اللجان الثورية تعمل على إعاقة هذه العملية لأن غالبية أعضائها يعملون في الإدارات الرسمية في وقت الدوام وفي التجارة الحرة وبعده. مع ذلك، يرى المراقبون أن نفوذ هذه اللجان قد بدأ يضعف وامتيازاتها تقلصت نسبياً.
هل أن ما يحصل اليوم في الجماهيرية الليبية يمكن تسميته بالتحول الفعلي نحو اقتصاد السوق ونحو الانفتاح السياسي ولو النسبي، وخصوصاً بعد الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومن ضمنهم جماعات الإخوان المسلمين؟
لا هذا ولا ذاك، يجيب خبير إيطالي في الشئون الليبية وصديق قديم للعقيد القذافي. فبحسب رأي هذا الأخير، فإن النظام الذي يمسك بكل الجوانب الأمنية يمكن أن يسمح بالتحرر الاقتصادي الانتقائي كما هو حاصل، لكنه لا يمكن أن يبدي تفهماً على الصعيد السياسي. ذلك، لأن الأمر يتعلق هنا بالسلطة وبرجالاتها الذي هو من الخطوط الحمر التي لا يجوز الاقتراب منها. فكل ما يحصل الآن وما يمكن أن يحصل مستقبلاً لن يخرج عن الإطار المرسوم في «التغييرات من ضمن الاستمرارية»
العدد 1280 - الأربعاء 08 مارس 2006م الموافق 07 صفر 1427هـ