قبل أيام قليلة خرج علينا أحد ممن يعدون من كبار المثقفين التقدميين الخليجيين والذي له تاريخ نضالي حافل بالتضحيات منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي، عاصر الحركة الوطنية في بلاده والمنطقة وجرب الحياة بحلوها ومرّها ... خرج علينا بمقال ناري خطير وجه من خلال سهامه الملتهبة بسلسلة من الاتهامات الباطلة والجائرة بحق فئة كبيرة من أبناء شعبنا الطيب. أخذ يتخبط يمينا وشمالا مستخدما مصطلحات فلسفية كثيرة قد يصعب على الانسان العادي التقاطها للوصول إلى غرضه ألا وهو وضع جماهير ابناء قرى البحرين الآمنة في قفص الاتهام بإلباسهم تهم جرائم لم يرتكبوها وتحويلهم إلى مجرمين تدفعهم بحسب تعبيره «قوى ظلامية» لارتكاب ما حدث في ليلة رأس السنة الميلادية من شغب وتخريب من قبل جماعات «الهوليغنز» المستهترة على مسرح شارع المعارض.
حاول الكاتب اختزال المفاهيم وجرها إلى مساحة ضيقة من التفكير السطحي المبتذل حتى يعطي الحوادث الصبيانية المؤسفة بعدا سياسيا وحجما اكبر من حجمها قد يؤدي إلى اثارة النعرات والبلبلة وتكون مبررا اضافيا للمتربصين بنهج الاصلاح الديمقراطي.
يقول بعد سرد انشائي غزير لمقدمته الخطابية ان «القرويين» قد تقاطروا على الشارع المذكور «من كل فج قروي عميق» مشحون بخطاب التشدد والغلواء الطائفي في الوقت المحدد.
لا أدري من أين أتى بهذا الدليل، هل كان الأخ المذكور حاضرا هناك وأخذ يعد السيارات والباصات التي جلبت هؤلاء الناس ممن وصفهم بالمشحونين بخطاب التشدد وكأنهم بطاريات... عجبا، أليس في عباراته الحادة هذه تحريض وعودة إلى الفكر الطائفي البغيض الذي دفنه أجدادنا منذ بدايات القرن الماضي وللأبد!
يستمر الكاتب في محاولته توجيه الإهانة وجرح مشاعر أبناء قرانا الطيبة، إذ يقول ان لا حاجة لنا - لا أعرف ماذا يقصد بـ «لنا» وهو خارج دائرة البلاد - للبحث وشحذ الذهن لإدراك جذور الأسباب الاجتماعية التي دفعت بعشرات المئات! من بؤس القرية لكي يخربوا ويدمروا ويحرقوا... لا أعرف كيف يتحمل الأخ الكاتب العيش في ضيافة بلد يحكمها بؤساء القرية حرفتهم الرئيسية الحرق والتخريب.
ثم يواصل سبق الحوادث واعطاء «الادلة» جاهزة وكأنه يقول للجهات الامنية أن لا داعي للبحث كثيرا... هذه هي البراهين وما عليكم سوى حبس قرى البحرين البائسة بأجمعها واعداد الزنزانات لا ستقبال هؤلاء البؤساء بعد أن يتقاطر على منازلهم زوار الفجر كما كان الحال قبل عامين.
بكل تجرد من المسئولية تعدى على دور العبادة والمنابر والمساجد واتهمها بأنها أفرغت في عقولهم «ظلام الجهل» بهدف مطامع سياسية ومذهبية وأعطتهم الضوء الأخضر للقيام بهذه الافعال. هل هناك اتفه من هذا الكلام وهذا الاتهام؟
أخي الكريم، دعني أفيدك بمعلومة بسيطة قد تجهلها وهي ان المساجد والمنابر والمآتم والنوادي الثقافية ذات تقاليد وطنية عريقة نفخر بها جميعا ولها دور ريادي في تعبئة الجماهير بوقود الثقافة والأدب والأخلاق وغرس روح المواطنة والانتماء، وقد برز دورها على مدى تاريخ الوطن النضالي جيلا بعد جيل وكانت دائما وابدا مركز اشعاع فكري تقدمي وطني لا تحريضي أو ظلامي كما تدعي.
استخدم الكاتب مصطلحات وتعبيرات غريبة عن واقع المجتمع البحريني التي لم نشهد مثلها حتى خلال أعوام قانون أمن الدولة المقيت. فقد اتهم المناضلين من الفصائل والاتجاهات كافة في البلاد بالانتهازية والوصولية والنفعية وانهم يحاولون التسلق على الأكتاف لإرضاء ترفهم الفكري، ووصف جماعات التيار الديني المعتدل بكهنة الظلام، ولم يسلم من اتهاماته وجام عضبه رموز القوى الوطنية التقدميين والعلمانيين المناضلين، لأن جريمتهم الوحيدة هي التحالف مع من يسميهم بالظلاميين!!
نعم، في هذا البلد الكل متحالف ومتعاون مع الآخر بغض النظر عن الانتماءات والميول السياسية، والكل حريص على التلاحم وحماية الوحدة الوطنية والإصلاحات. لا يمكن لأي كائن كان ان يتخذ من حدث ماء أو تجاوز ما - كـ «اسطوانة الغاز» أو غيرها أيام قانون أمن الدولة والطوارئ إذ كانت جماهيرنا تتعرض لأبشع انواع القهر والقمع والارهاب الرسمي - أن يفرق أو ينال من وحدة شعبنا بكل طوائفه.
اما الوصوليون الذين وصلوا ويصلون على أكتاف الآخرين فهم هؤلاء الانتهازيون الذين يعرفهم شعبنا جيدا وانت ايضا تعرفهم.
حاول الكاتب تفريغ ما في جعبته من اتهامات باطلة ضد الجميع متجاهلا تراث هذا الوطن الذي لا يمكن ان يشوهه أحد، والكل يشهد على مستوى البلاد وعلى المستويين الاقليمي والدولي ما عدا المغرضين بسلمية نهج الحركة الوطنية، والمواطنين بكل طوائفهم وأطيافهم السياسية حتى من أجل تلك الـظروف التي مررنا بها وعانى من مساوئها السنة والشيعة على السواء.
يقول الكاتب في مقاله «المعجزة» ان هناك محاولات لزعزعة المشروع الاصلاحي لجلالة الملك، وبدأ في اعطاء النصح طالبا غسل النفوس من غلواء الارهاب والتخريب... سامحك الله... هل لأحد من أبناء هذا الشعب الوفي الذي طالما طالب بالإصلاحات ان يقف ضدها، سوى فئة محددة ومعروفة وقفت وتقف ضد كل عمليات الاصلاح والبناء الديمقراطي؟
مع تكرار جمله وعباراته يبدو وكأن لديه الدليل القاطع على أن ابناء القرى الذين عانوا ويلات القمع والارهاب والعذاب هم المسئولون عما حدث وان هناك أيادي خفية حركت هؤلاء الشباب الذين من بينهم باكستانيون (أجهل اسماء قراهم البائسة في البحرين التي زحفوا منها إلى شارع المعارض!؟!)
لقد نسي الكاتب ان تلك الرموز الديمقراطية والتقدمية والدينية النيرة الذي تحدث عنهم باستهزاء وسخرية هم انفسهم ممن وقعوا ميثاق شرف وتعهد لحماية الوحدة الوطنية وصون المنجزات والاصلاحات الديمقراطية وهي مكتسبات يحرص عليها جميع ابناء الشعب.
ان الغطرسة وأحادية التفكير الجامد قد ولى زمانهما والعالم يتقدم بمفاهيم تقدمية متطورة عن سابقتها عن طريق التعددية الحزبية والفكرية والقبول بالرأي الآخر.
ان مهنة الكتابة حرة ولكن يجب عدم تبرير ممارستها ببث السموم واثارة النعرات الطائفية.
كان الاجدر بكاتبنا في مكانته عرض الحوادث بموضوعية وطرح الحلول التي يراها من دون كيل الاتهامات والسخرية ممن اعتقلوا او عذبوا او عاشوا في المنافي (او كما يحلو له في المهجر) لسنوات طويلة.
الشعب البحريني ذو تراث ثقافي عريق تضرب جذوره في عمق تاريخ دلمون ويمتلك الارادة الكافية لتجاوز أزماته بحكمة وتعقل وموضوعية من خلال خطابه السياسي الحضاري المعتدل ومن خلال مؤسساته المدنية سواء كان ذلك في المسجد او المأتم او النادي من دون الحاجة إلى افتعال العنف وليس في حاجة إلى من يملي عليه ما يجب عمله في بلده.
أهل البحرين في مدنهم وقراهم على رغم أن أكثريتهم الساحقة يحصلون على قوتهم اليومي بصعوبة فإنهم يحفظون كرامتهم ويتعاونون فيما بينهم لانجاز بناء صرح وطن آمن وشعب سعيد.
الكاتب في نهاية مقاله ناقض الكثير من أقواله حين عاد قليلا الى جادة الصواب وطلب من الجميع رص الصفوف والاقلام والصحف والمنظمات والجمعيات التي هاجمها بعنف الى العمل ضد محاولات زعزعة النفوس، هذا بعد ان ألبس الابرياء تهما ومسئوليات جرائم لم يقترفوها.
شكرا على النصيحة وسامحك الله
العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ