هل يمكن أن يختلف الناشطون السياسيون في برامج العمل والأساليب وحتى في القيادات وهم يعملون في ساحة واحدة؟ هذا ليس سؤالاً في الفقه كما قد يظن البعض، وإنما هو دعوة للتأمل تفرضها الحوادث الجارية في الساحة هذه الأيام.
في البداية، لابد من الإشارة إلى أن الناشطين السياسيين لا يمكن وليس مطلوباً منهم أن يتفقوا على كل شيء، فعلى الدوام كان هناك اختلاف في فهم الحوادث السياسية وطريقة التعاطي معها، اختلاف في العمل من داخل النظام (المشاركة) أو خارجه (المقاطعة)، واختلاف في الأساليب على مستوى تحريك الشارع أو الاقتصار على دور النخب. واختلاف في نغمة الخطاب وإيقاعه، فما يصفه البعض بالمعتدل يكون عند البعض الآخر «انبطاحاً» والعكس بالعكس. وفي السياق نفسه، يقع الاختلاف في النظرة إلى حركة الإصلاح التي قادها جلالة الملك في فبراير/ شباط 2001، هل هي مستمرة ببطء، أم توقفت مع إصدار دستور 2002 من طرف واحد، خلاف بعده ملف «التعديل الدستوري» والطائفية والتجنيس وملفات وملفات.
نعم، هناك مساحات ومساحات مازال الناشطون السياسيون منقسمين عليها وليس في هذا غرابة، ولكن السؤال: هل من المعقول أن تتسع الدائرة لتشمل الاختلاف حتى في القيادات وهي تخاطب جمهوراً واحداً في بلد صغير كالبحرين؟ البعض يرى أن تعدد القيادات حالة صحية متقدمة توفر للحركة المطلبية هامشاً من الحرية والانفتاح على الأساليب والرؤى المختلفة، ويعطيها مساحة جديدة للمناورة، ويوفر لها أيضاً بدائل جديدة تضمن استمرارية المعارضة ونجاحها بدل «وضع البيض كله في سلة واحدة». ويضرب هؤلاء مثالاً على نجاح هذا الأسلوب بالحركات النضالية في فلسطين المحتلة، فحماس والجهاد بقياداتهما وأساليبهما المختلفة تحققان للشعب الفلسطيني انجازات تختلف عن تلك التي تحققها فتح مثلاً، ولو اصطفت تلك الحركات حول قيادة واحدة بأسلوب واحد لكان سهلاً على العدو الصهيوني محاصرتهم وتصفيتهم حركة بعد أخرى.
قد يكون هذا الكلام منطقياً وصحيحاً إجمالاً، لكنه في الحقيقة لا يجيب على السؤال المطروح. فنحن لا نتحدث عن القيادات «الحزبية» أو «المناطقية» التي تشتغل بالتفاصيل والحيثيات، ولها أن تختلف وتتفنن في المناورة والتكتيك، وإنما نتحدث عن القيادات العليا التي ترسم الخطوط الرئيسية، وتضع الاستراتيجيات وتتدخل فقط في المنعطفات، وهذه القيادات في أي بلد لا يصنعها موقف أو حدث آني، ولا تأتي عبر الانتخابات، وانما تلتف حولها الجماهير بعفوية بعد أن جربتها في المحن وتفاعلت معها في الازمات. وعليه نسأل: هل يمكن في موضوع استراتيجي كالأمن مثلاً أن تعلن قيادة موقفاً معيناً بينما تعلن قيادة أخرى موقفاً مناقضاً؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن لقيادة كبيرة في حماس مثلاً أن تعلن الهدنة مع «إسرائيل» بينما تدعو قيادة أخرى باستمرار المقاومة المسلحة؟ فماذا يفعل الحماسيون عندها؟ وهل يكون مقبولاً أن يعلن السيد السيستاني قراراً بالمشاركة في الانتخابات العراقية مثلاً بينما تتخذ قيادة أخرى كبيرة موقفاً بالمقاطعة؟ وهل يكون مقبولاً أن يتعارض خطاب القيادات حتى في المسائل الاستراتيجية الكبرى؟ أليس الأساس أن تتوحد القيادة بعد التفاف الناس حول شخص يتصدى للساحة ويضبط الإيقاع في القضايا الكبرى، بدل السقوط في الفوضى والارتجال واللامسئولية؟
إذا لم تتوحد القيادة وتحل خلافاتها وترتب بيتها الداخلي، فيجب الاتفاق على الحد الأدنى أقلاً، أو التنسيق وتوزيع الأدوار، فإذا تحرك البعض سكت الآخر من أجل مصلحة وطنية أكبر. أما إذا تعذر التنسيق أيضاً، فلا سبيل إلا «التمايز» الواضح بين الحركات على رغم صعوبته، بدل الاستغراق في «الترقيع والتبرير»، كما ميز حزب الله موقفه مثلاً عن الشيخ صبحي الطفيلي وقرار فصله عن الحزب بعد «ثورة الجياع» التي قادها مستقلاً من دون الالتزام بأولوية العمل المقاوم عند الحزب.
ولابد من الاستدراك، ان التمايز ليس ممنوعاً ولا حكراً على أحد، فلكل مجموعة صغرت أم كبرت الخيار في التعاطي مع الشأن العام، ولها كامل الاحترام والتقدير في اختيار مرجعيتها السياسية وأسلوبها في العمل، شرط أن تتحمل كما يتحمل غيرها مسئولية القرار وتبعاته. وفي حال التمايز بين الحركات، فالأمة هي الفيصل ولها القرار في اختيار من يمثلها ويدافع عن حقوقها وليس للمرء إلا أن يكون مع هذا الخيار إذا تعذر الأول والثاني
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل خليل"العدد 1278 - الإثنين 06 مارس 2006م الموافق 05 صفر 1427هـ