العدد 1275 - الجمعة 03 مارس 2006م الموافق 02 صفر 1427هـ

الإقرار بحق الاختلاف... تسامح

عثمان الماجد comments [at] alwasatnews.com

-

استغرق مفهوم التسامح وقتاً طويلاً لينتشر في أوروبا، قبل أن تتفكك وحدة تفسير النص الديني (الكاثوليكي) وقد برز، مفهوم التسامح، على السطح الاجتماعي مع ظهور البروستانتية في القرن السادس عشر، مؤسسا فهما جديدا في طريقة التعامل الانساني قاد أوروبا لتكون واحة ديمقراطية، حتى وان قال بعضنا غير ذلك. لكن الأمر يبدو مختلفا مع المثقف العربي في الوقت الحاضر، لجهة تيسر مهمته في البلدان العربية بالمقارنة مع ماضي حركات الاصلاح في الغرب. ذلك ان التسامح مسلك يحثنا عليه ديننا الاسلامي وتلزمنا به قيمنا المجتمعية، فضلا عن انه بات وعاءً لمجموعة من القيم لا يستقيم الأخذ بها من دون تشرب مفهومه، والوعي بمتطلباته. فالنشأة الغربيه لمفهوم التسامح لا تلقي حقيقة ان نهج التسامح له امتداداته التاريخية العميقة في مجتمعنا العربي والاسلامي. وبصرف النظر عن إشكالات بسط قيم التسامح في الراهن العربي والتي تعود إلي اختفائه خلف سدم العصبية والتطرف والنرجسية التي أن مجتمعنا العربي تحت وطأة ثقلها وبؤس افرازاتها على الأنساق كافة، فإنه لابد للمثقف العربي أن يحرص على استثمار هذه القيمة لفتح أبواب أوسع للحوار لدحظ الآراء والافكار ذات المنبت الشيطاني والتي تستزرع الطائفية ومستويات مختلفة من التمييز العنصري والعرقي والجنسي.

مفهوم التسامح من المفاهيم المستخلصة من عمق التجربة الانسانية، فاذا ما سادت كقيمة متجذرة في مجتمع ما فإنها تتيح تطوراً سلساً وتخلق ايقاعاً منضبطاً يقود الى بناء مجتمعات متخلصة من بقايا علاقات القبيلة، وتتجلى فيه انسانية الانسان، وتفتح أبواب التألق في خدمة المجتمعات والأوطان. ذلك أن معنى التسامح كما عرفته منظمة اليونسكو، في المادة الأولى في العام 1995م، عندما اعتمدت مبادئ التسامح هو «الاحترام والقبول والتقدير والتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التغير وللصفات الانسانية لدينا... وهو لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل أن التسامح هو قبل كل شيء اتخاذ موقف ايجابي فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا...». والتسامح مفهوم يحمل في أحشائه مجموعة من القيم مندغمة في مفهوم واحد جامع شامل يضع الاختلافات في الرؤى، على المستويات كافه، في سياقها التفاعلي المفضي الى المزيد من الاندماج المجتمعي والانفتاح على المغاير في العقيدة والفلسفة والفكر. فهو، اي مفهوم التسامح، كما يقول أحد الباحثين في قضايا حقوق الانسان «قيمة اخلاقية أولا، إذ لا يمكن فهمه الا كنقيض للتعصب. وقيمة فلسفية صقلتها تجارب التعايش الإنسانية. وقيمة دينية لا يمكن فهمها بعيدا عن مفهوم المحبة والاخاء. وقيمة سياسية تقبل بالحجة والاختلاف. وقيمة حقوقية تشرع لعدم التمييز وتحدد الحقوق والواجبات في اطار المواطنة».

وإذا كان الامر قد استقام وثبت في شكله الذي نشهده وأضحى مثلا يحتذى به في تأسيسه لمنظومة من القيم التي ظهرت من معطف التسامح لتغدو نسقاً إنسانياً يعيد أولئك الذين حكمت عليهم قسوة الظرف الزمني باتاحته لمن خلت عاطفته من الحس الآدمي الى جوهره الانساني، فإنه حري بالمثقف العربي المسكون بالقلق والمستوطن بالخوف على حاضر وطنه ومستقبله الذي بات مخطوفا أو برسم الاختطاف من قبل قوى، قومية وأصولية دينية، وهذه القوى على ما تحمله لنا تجاربهم المكتوبة وما تختزنه الذاكرة من مآس عناوينها بارزة في المشاهد الاجتماعية المشحونة بالتأزم والقلق في كل بلد على حدة لهي على تناقض حاد مع التسامح نظراً إلى ما تنطوي عليه هذه القيمة من ايمان بحق الآخر في الاختلاف، لا تؤمن به هذه القوى، وما يتأسس عليه المفهوم ذاته من حتمية الحوار للوصول الى حسم أو توافق بشأن هذه القضية أو تلك من القضايا التي تظهر في سياقاتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفكرية.

فلن يكون المثقف على صلة بهموم الناس ومعبرا عن تطلعاتهم طالما اعتلى برجه وغاص في وثير معطيات نتاجاته الفكرية والادبية، وراح يسامر صنوه في جماليات نصه الادبي أو استنتاجاته الفكرية المستخلصة من واقع اكاديمي غابت عنه صور الحياة بنبضها الجماهيري واكتفى بتثقيف ذاته منسلخا عن جسد وروح مجتمعه. ولو كان الامر كذلك في اوروبا لما تحركت قيد انملة في طريق التقدم. فما يميز أوروبا عن البلدان العربية هو ان بلدان أوروبا قد عبرت نفق العصور الوسطى، واجتازت ظلامية زمنها، ودخلت الى عصر النهضة عبر مسافات زمنية طالت في بعض بلدانها وقصرت في بعضها الاخر. وهذا ما نحتاج له كي نحدث التغيير المطلوب لبعض موروثاتنا القيمية المعوقة لنهضتنا. ففي المانيا، على سبيل المثال، انبرى فلاسفة التنوير مثل هيغل وكانت وغيرهما الكثيرون في تناول تراثهم الديني من واقع قراءة تأويلية جديدة وضعت نفسها على مسافة متباعدة عن المس بروحانية الدين او الحط من قدر المؤمنين به. في الوقت ذاته الذي استخدموا فيه اقسى انواع النقد المبني على تفاسير تحررية متصادمه مع السائد والمسيطر، مؤسسين قواعد تربوية تنهض بالتعليم المبني على حقائق العلم وأسانيده.

فالتسامح هو الأصل وهو الصفة الملازمة لكينونتنا البشرية، والتطرف في التفكير والطرح المفضيان الى عنف المسلك والممارسة هما اللذان يشكلان خرقا للعادة. فماذا نحن راسمون لطريقنا، نهتدي به لبلوغ سيادة التسامح والاقرار بحق الآخر بالاختلاف في مجتمعنا الذي نحن في أمس الحاجة اليه، لكي لا يأتي الزمن الذي فيه تلعننا الأبناء على هكذا ارث أورثناه؟ ذلك أن ما يمور في قاع المجتمع لا يشي بيسر الولادة، وما تتعاطاه التيارات السياسية عبر خطابات طائفية الهوى، لا يجعلها قادرة على القيام بدور القابلة.

العدد 1275 - الجمعة 03 مارس 2006م الموافق 02 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً