العدد 1274 - الخميس 02 مارس 2006م الموافق 01 صفر 1427هـ

الصراع في العراق... من منظور تاريخي

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لقد شهدت أوروبا في القرن السابع عشر ما أطلق عليه حرب 30 عاماً التي استمرت في صراع دام بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم يكن هناك غالب ولا مغلوب، بل دامت الحرب سجالاً بين الطرفين، وانتهت بصلح وستفاليا العام 1648 الذي وضع أسس بناء الدولة الوطنية في أوروبا وأرسى مبادئ الفصل بين السياسة والدين، ووضع اللبنات الأولى لمفهوم المواطنة السياسية في الدولة متخلياً عن الانتماء الديني الذي أصبح تراثاً ثقافياً مع إضاءات سياسية.

لكن المنطقة العربية والإسلامية مازالت تشهد حرب الخمسة عشر قرناً بين أنصار علي وأنصار يزيد، ويتجلى ذلك في أبشع صورة في حوادث العراق الدامية هذه الأيام بين حرق أضرحة ومزارات الإمامين الهادي والعسكري وتدمير مساجد السنة. والواقع أن أي نظرة متأملة ومتروية للموقف تؤكد أن حالة عبثية، في الفكر والسياسة، تسود الأوضاع في العراق، إذ يتم عمداً خلط الأوراق بهدف تقسيم العراق لمصلحة قوى إقليمية، وقوى دولية لا تضمر خيراً للعرب، ولا للمسلمين ولا للعراقيين. فمن قال إن أضرحة آل البيت الكرام هي خاصة بالشيعة، ومن قال إن مساجد السنة خاصة بالسنة، أليست المساجد جميعاً سواء مساجد شيعة أو سنة لله «وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً» (18: الجن) بنص القرآن الكريم. أليس احترام وتوقير ومحبة آل البيت الكرام واجباً إسلامياً بنص القرآن الكريم أيضاً على لسان النبي (ص) «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (23: الشورى). إن هذه المفاهيم الخاطئة والمشوشة يقصد بها بث الفرقة والفتنة بما يؤدي إلى صراع دموي يستند إلى ممارسات تاريخية لها حكمها وظروفها، وهي لا تمت إلى الواقع المعاصر في أية دولة إسلامية أو عربية بصلة. وإنما هدفها، كما حدث في عهد الرسول (ص)، عندما دخل أحد المنافقين لإثارة الأحقاد التاريخية بين قبيلتي الأوس والخزرج حتى كادا أن يتقاتلا، وعلم النبي (ص) بذلك، فأسرع إليهم وعنفهم وأنبهم قائلاً: «أكفر بعد إيمان، أم جاهلية وأنا بين ظهرانيكم» وأكد الرسول الكريم رفضه للعصبية باعتبارها من الفكر الجاهلي، إذ قال «ليس منا من دعا إلى عصبية».

والواقع أن خلافات أو اختلافات السنة والشيعة هي خلافات شكلية أكثر منها حقيقية، وأن الإسلام الذي دعا إلى احترام المخالفين له في العقيدة هو المرجعية الكبرى في حسم أية خلافات منطقية أو اجتهادات فقهية، كما أن هذا الحسم لا يعني تنازل أي فريق عما يعتقده صواباً أو جزء من تصوراته التي يراها تحولت إلى معتقدات، فلكل وجهة نظره في التاريخ والماضي، وفي اختلاف الفقه والاجتهادات. ثم نتساءل: من قال إن الذين قتلوا الإمام الحسين هم من السنة، ومن قال إن الذين ناصروا الإمام الحسين هم من الشيعة، إن هذا قول غير منطقي بالقدر نفسه الذي ينبع من السؤال الذي طرحه أحد العلماء على شخص يدعي العلم، وكلما سأله سؤالاً أجاب ان هذا السؤال فيه قولان، ثم سأله السؤال الحاسم، فقال له أفي الله شك قال فيه قولان، فكان هذا الجواب، هو الفيصل بين من يعلم وبين من يدعي العلم.

ولعل خير تجسيد لمحبة السنة لآل البيت هو في مصر، إذ يتسابق جميع المواطنين لزيارة مسجد الإمام الحسين وضريحه ومسجد السيدة زينب وضريحها وكذلك الأمر بالنسبة إلى باقي آل البيت وأضرحتهم المنتشرة في ربوع القاهرة ويرفض أي مصري أدنى مساس بتلك الأضرحة بغض النظر عن حقيقة وجود هؤلاء العترة الكرام من عدمه، إذ لهم مقابر وأضرحة في سورية والعراق وغيرها من البلاد الإسلامية. ما نريد قوله إن الاختلافات السياسية التي أدت ظهور الفرق الإسلامية، هي خلافات تاريخية لا جدوى من طرحها في عصرنا الحاضر، «ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا إلى الخيرات» (148: البقرة)، ولعل الخير الأكبر هو في وحدة المسلمين واتحادهم وليس في تفرقهم وتشتتهم، وأبرز معالم الوحدة في عصرنا الحديث هو مفهوم الدولة الوطنية، إذ الولاء إلى الوطن يسبق أي ولاء آخر طائفي أو ديني أو اثني، فالدولة في العصر الحديث تضم عناصر متنوعة من عقائد وطوائف وأعراق وتجمعهم الرغبة في العيش المشترك. أما وحدة العقيدة أو الطائفة فهي تأتي في المقام الثاني بعد الولاء إلى الوطن. فمفهوم الأمة الإسلامية الذي يتردد كثيراً في الفكر الإسلامي هو مفهوم حضاري أكثر منه سياسيا، وحتى عندما سادت دولة إسلامية واحدة في بعض مراحل التاريخ، كانت السيادة الكاملة لها اسمية أكثر منها فعلية، وكان هناك شبه استقلال للولايات الإسلامية وهو ما أدى إلى ظهور الدول بعد ذلك. إن الاعتداء على مزار الإمام الهادي والإمام العسكري وغيره من الأماكن المقدسة للشيعة يجب إدانته بأقصى ما يمكن من إدانة، وبالقدر نفسه، يدان أي اعتداء على مساجد السنة، وأنني اعتقد جازماً بأن من فعل ذلك وراءه قوى إقليمية أو دولية لا تريد الخير للعراق والعراقيين، وتسعى إلى بث الفرقة بينهم تحقيقاً لمصالحها ومآربها السياسية والاقتصادية ونزعاتها التوسعية على حساب العراق ووحدته وشعبه.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 1274 - الخميس 02 مارس 2006م الموافق 01 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً