في مذكراتها كتبت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير أنها اضطرت للتغيب عن المشاركة في دفن أعضاء المنتخب الأولمبي الإسرائيلي الذين عادوا في صناديق خشبية على متن طائرة تابعة لخطوط (العال) الإسرائيلية قادمة من مدينة ميونيخ التي كانت مسرحا لعملية فدائية جريئة نفذتها قوة فلسطينية، لأنها كانت تحضر جنازة شقيقتها. ولم تظهر رئيسة الوزراء الإسرائيلية أمام الناس إلا بعد أيام. ففي الأيام التي تلت دفن القتلى الإسرائيليين الذين قتلوا خلال العملية بأيدي القوة الفلسطينية والشرطة الألمانية التي تصرفت بصورة هشة، استجابت غولدا مائير لضغط عائلات القتلى الذين طلبوا من «إسرائيل» أن تنتقم.
في كتابه الصادر حديثا باللغة الألمانية، يشير أرون كلاين (45 عاماً) وعمل سابقاً في الموساد، ويشغل اليوم منصب مراسل لصحيفة «تايم» الأميركية في «إسرائيل»، والذي يحمل عنوان (المنتقمون) ويتناول وجهة نظر إسرائيلية بشأن عمليات اغتيال كوادر فلسطينية في أوروبا ولبنان بعد عملية ميونيخ، إلى أن مائير كانت تعاني من ضغط شديد في الداخل بعد عملية ميونيخ التي نقلت النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لأول مرة إلى منبر دولي.
ففي العام 1972 استضافت ألمانيا الألعاب الأولمبية وكانت من وراء ذلك تسعى لتقديم صورة للعالم عن ألمانيا الجديدة. في مقابلة بثها التلفزيون الألماني مع أبوداوود المخطط الرئيسي للعملية، قال إن جميع الذين قامت «إسرائيل» بقتلهم من الكوادر الفلسطينية لم يكن لهم أي ضلع في عملية ميونيخ. من بين ضحايا عملاء الموساد عامل مقهى مغربي اغتاله الإسرائيليون في النرويج ظنا أنه أبوحسن سلامة أحد القادة الأمنيين الفلسطينيين على رغم أن العملاء ظلوا حوله عدة أيام وبحوزتهم صورة لسلامة!
وبسبب شعور مائير بالفشل أولا، لأنها لم تنجح بإقناع المستشار الألماني فيلي برانت في السماح لقوة عسكرية إسرائيلية بالتدخل لإنقاذ الرياضيين الإسرائيليين وأن تحل المشكلة على الطريقة الإسرائيلية، ثم هناك من يرى أن غالبية أعضاء القوة الفلسطينية قتلوا خلال العملية على أيدي الشرطة الألمانية ولم ينج إلا 3 منهم، واحد منهم مازال على قيد الحياة.
غير أن مائير التي أغضبها كثيراً أن عملية ميونيخ نقلت القضية إلى المحافل الدولية، وبدأ العالم يتحدث عن شعب فلسطيني مشرد وقضية فلسطينية، طلبت من الموساد وضع خطة لإسكات الأصوات الفلسطينية في أوروبا. وهي الخطة التي قضت بتصفية الفلسطينيين الذين كانوا يشرحون مأساة شعبهم للرأي العام الأوروبي.
من كان اسمه يرد على قائمة الموساد كان يتحول إلى هدف لفرقة الاغتيال الإسرائيلية وهذا ما اعترف به صراحة أمنون بيران - مسئول كبير سابق في الموساد - كان يضع خطط القتل وقال في مقابلة مع التلفزيون الألماني: كنت أجمع المعلومات التي تصلني وفي ضوئها كنت أضع خطة القتل.
وقال أمنون شيئا مهما: كان يكفي الحصول على اسم شخص والبلد الذي يقيم فيه لم أكن أهتم إذا كانت المعلومات عنه صحيحة أم لا، كما لم أعر أهمية لماضيه وكان يكفي ورود اسمه لنعد خطة للقضاء عليه. معنى هذا أن الذين اغتالتهم «إسرائيل» بحجة الانتقام لعملية ميونيخ لم يحصلوا على فرصة للدفاع عن أنفسهم.
صدر قرار القتل من قبل مائير وفقا لما ورد في كتاب «المنتقمون»، وسميت بالاغتيالات الوقائية، وهو الأسلوب الذي عملت به لاحقا جميع الحكومات الإسرائيلية حتى الحكومة الحالية. ووصفت مائير أمام الكنيست الإسرائيلي أهداف «إسرائيل» في نهاية سبتمبر 1972: سنضرب في الأماكن التي تنطلق منها أعمال عنف تستهدف اليهود والإسرائيليين. ومن الأهداف المهمة أن «إسرائيل» كانت تبلغ الفلسطينيين رسالة تحذير من وراء كل عملية مفادها أن الدولة العبرية لن تتوانى عن تصفية من يرفع يده ضد مواطنيها.
بعد عملية ميونيخ أصبحت عمليات الاغتيال السلاح الرئيسي بأيدي الإسرائيليين. في صدارة القائمة مجموعة الأسماء التي وضعها الإسرائيليون لاغتيال أصحابها وكانوا من حملتهم مسئولية عملية ميونيخ. كانت البداية مراقبتهم لحين وضع خطة القتل.
كل مرشح للقتل على أيدي عملاء الموساد كان يتم تبليغ رئيسة الوزراء الإسرائيلية به، كما كان يجري إطلاعها على سير كل عملية قبل التنفيذ وبعده.
على رغم أن بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية كانوا يطلعون على خطط قتل الفلسطينيين فإن غولدا مائير كانت صاحبة قرار تنفيذ عملية القتل. في سابقة ليس لها مثيل كانت لعبة القتل تبدأ باجتماع يضم رئيس الموساد ورئيسة الوزراء الإسرائيلية وعدد من أعضاء حكومتها.
كان رئيس الموساد يقوم بدور المدعي العام الذي يدعو إلى قتل المتهم، ورئيسة الوزراء ووزراؤها قاموا بدور القضاة. كانت الجلسات تنعقد بسرية تامة حتى أن مستشاري مائير لم يعرفوا بها. في وقت لاحق تمت تسمية هذه الهيئة بالهيئة إكس.
حسبما يقول أرون كلاين في كتاب (المنتقمون) كان مايك هراري قائد الوحدة الخاصة (سيزاريا) التي كان من بين أفرادها إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، يشارك في هذه الجلسات. قام مع مساعديه في عرض خطط الاغتيال قبل تنفيذها.
كان رئيس الموساد ينتظر الحصول على موافقة رئيسة الوزراء الإسرائيلية عند محاسبة كل كادر فلسطيني جديد.
كل مرة كان رئيس الموساد يطلب الانتقام لدماء الرياضيين الإسرائيليين. غالبا كان كلامه يكفي ليبث شهوة الانتقام. قبل وقت قصير على وفاته تحدث مستشار غولدا مائير الأمني، أهارون ياريف مع مراسل هيئة الإذاعة البريطانية بيتر تايلور وقال: حين كنت اشعر أنها ليست مقتنعة بحال من الحالات كنت أضاعف جهدي لأقنعها بالموافقة على إصدار قرار القتل وكانت دائما تتجاوب معي.
«إسرائيل» ليست الدولة الوحيدة في العالم التي يجيز قانونها التعذيب في السجون، ولكن رؤساء حكوماتها هم الوحيدون في العالم الذين بوسعهم اتخاذ قرار قتل أحد الأشخاص بمجرد الضغط على زر. وأسلوب الاغتيالات الذي عملت به «إسرائيل» منذ عهد غولدا مائير يعطي صورة عن الدولة اليهودية التي اعتبرت بعد عملية ميونيخ أنها تخوض حرباً مع الفلسطينيين في الشتات. واستغلت «إسرائيل» علاقاتها مع دول أوروبية بينها المخابرات الألمانية التي كانت تزود عملاء الموساد بجوازات سفر ألمانية لتسهيل تنقلهم في أوروبا ودول عربية.
أسلوب الاغتيالات تبنته الحكومات التي تعاقبت على الحكم وتكون كالآتي: يحصل رئيس الوزراء على ملف وصورة الشخص المستهدف وقليل من المعلومات عن خلفية الشخص وعدة صفحات تتحدث عن التهم الموجهة له. يقول أرون كلاين في كتابه: غالبية رؤساء الوزراء لم يفكروا طويلا في التوقيع قرار تنفيذ القتل. وخصوصاً حين كان رئيس الموساد يستهل كلامه بالإشارة إلى أن المتهم له صلة بعملية ميونيخ.
هكذا كان الحال بالنسبة لرؤساء الحكومات بعد مائير، مناحيم بيغن واسحق شامير واسحق رابين وشمعون بيريز وإيهود باراك. لم يطلب أحدهم وقف تنفيذ عملية اغتيال واحدة. وفي منتصف الثمانينات أمر رئيس الوزراء بيريز طائرات حربية إسرائيلية أن تغير على مقر عرفات في تونس اذ تم في هذا البلد اغتيال أبو جهاد الذي اتهمته «إسرائيل» بإشعال الانتفاضة الأولى. يقول أرون كلاين: لم يسأل رئيس حكومة إسرائيلية واحد سؤالاً واحداً عن الشخص المعتزم القضاء عليه. وما إذا يشكل اليوم تهديدا لأحد؟ غالبية الذين أجهز عليهم عملاء الموساد كانوا يوصفون عند محاكمتهم سراً بمحرضي عملية ميونيخ أو المتعاونين أو مهندسي العملية وكان رئيس الموساد يستخدم لغة تجد قبولا عند رئيس الحكومة الإسرائيلية. وبحجة الاغتيالات الوقائية كان يكفي أن يشير رئيس الموساد إلى وجود معلومات بأن شخصا ما يخطط للقيام بعمل عنف ضد هدف إسرائيلي في بلد ما.
لم يكن بيغن يطرح على رئيس الموساد سؤالا واحدا وكان يثق بالموساد ثقة عمياء. على النقيض من بيريز الذي كان يطرح أسئلة كثيرة ويعبر عن معارضته لعمليات القتل، لكنه لم يكن يخيب أمل رئيس الموساد. وحسبما يقول أرون كلاين فإن شامير كان الأسهل، بحكم ماضيه كعضو في المنظمة اليهودية الإرهابية (ليشي) التي تأسست قبل قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين، وكان شامير يستعين كثيرا بالموساد. كما لم يطلب قط تأجيل عملية اغتيال حتى لو كانت ستقع في بلد أوروبي سيقوم بزيارته بعد وقت قصير. فالمهم بالنسبة له أن ينجز الموساد العملية ولم يهتم مرة بالتفاصيل ولم يبحث عن تبريرات سياسية.
لكن شامير كما يرد في كتاب (المنتقمون) اعترض على عملية اغتيال واحدة وكان هذا في ديسمبر 1987 حينها كان في المستشفى حين بلغه أن وحدة القتل التابعة للموساد (سيزاريا) على وشك اغتيال أحد أعوان أحمد جبريل قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة). وفي الوقت الذي استعد فيه عملاء الموساد لتصفية الرجل قام رئيس الموساد شباتي شافيت بزيارة شامير في المستشفى طلبا للحصول على موافقته لكن شامير كان متعباً ولم يقو على الكلام، وهكذا عاد رئيس الموساد ليبلغ العملاء أن الله منح المسئول الفلسطيني حياة جديدة.
من رئيس الوزراء حتى المستشارين العسكريين لرئيس الوزراء الإسرائيلي كانوا عند القيام بكل عملية يتتبعون التنفيذ بواسطة التقنية العصرية. وحين اغتيل أبوجهاد في تونس حمل أعضاء فرقة القتل شريط فيديو إلى القدس إذ تم تصوير عملية الاغتيال بالكامل والمسألة تتعلق بالوقت فقط حتى يشاهد العالم هذا الشريط.
أبوداوود الذي يقيم في دمشق ويبلغ 68 عاماً أبلغ التلفزيون الألماني أنه لا يشعر بذنب لمشاركته في عملية ميونيخ. وسبق أن صرح قبل سنوات أنه قام شخصيا بنقل الأسلحة إلى فرانكفورت وأودعها في صناديق في محطة القطارات الرئيسية لحين وصول أعضاء القوة الفلسطينية وسلمها لهم. كما كشف أنه قام بتفقد القرية الأولمبية ولم يعترض أحد طريقه.
وفقا لما ذكره أبوداوود كان بالوسع أن تتم العملية بسلام من دون إراقة دماء لو استجابت «إسرائيل» لمطالب الفلسطينيين بالإفراج عن معتقلين في سجونها. وأكد أن الذين قتلوا لاحقا على أيدي الموساد لم يكن لهم
العدد 1270 - الأحد 26 فبراير 2006م الموافق 27 محرم 1427هـ