اقترب موسم الانتخابات الذي سيفرز في هذا الموقع وذاك قيادات وزعامات وطنية / سياسية جديدة إضافة إلى القديم منها، هذا في الوقت الذي تنتظر فيه على القوائم مشروعات حضارية، من مثل كتلة / كتل تاريخية أو ديمقراطية، أو دولة مؤسسات وقانون وما شابه، وكلها بلا ريب تحتاج إلى قيادات وزعامات وديمقراطيين، ومثقفين يتسلحون بالذاكرة والشجاعة بحسب تعبير أحد الكتاب.
وحتى لا نغرق في عالم الفرضيات، نعود ثانية إلى الواقع. فالإطلالة السريعة على سؤال خلدون النقيب في كتابه «آراء في فقه التخلف» بشأن: «لماذا لا تقوم دولة المؤسسات عندنا»؟ تكشف لنا بوضوح الشمس الغطاء عن سمات الشخصية الوطنية المرتجاة، التي نأملها لتجسيد تلك المشروعات ومنها دولة المؤسسات والقانون. ومن طرفه يؤكد المؤلف على الاتفاق العام بأن قيام المؤسسات بالسلوك التنظيمي المقنن في الإدارة والاقتصاد، يعد بمثابة مؤشر على النضج السياسي في المجتمعات الحديثة، وان المؤسسات أكثر عقلانية وموضوعية من الزعماء وأكثر استمراراً واستقراراً من القادة الأفراد الذين يتغيرون وتبقى هي.
ثانية... لماذا لا تقوم دولة المؤسسات؟ يضيف النقيب: ذلك بسبب وجود موانع موضوعية وذاتية تمثل سمات مشتركة للشخصية الوطنية تحول دون قيام دولة المؤسسات. وخلدون حذر جداً في طرقه لهذه الإشكالية بسبب التناول الانطباعي الذي يعالج حالاً خلافية والتعميم الذي يفتقر إلى الدقة، فهو يحاول إثبات قناعته بالاستشهاد بوجهتي نظر، الأولى منها، ما كتبه سلامة موسى وجمال حمدان بشأن الشخصية المصرية «إنها نتاج لحتمية جغرافية، أو مأساة جغرافية». فكثيراً ما تبدأ كتابات الأكاديميين المصريين من زمان الفراعنة إلى يومنا في استمرارية غير منقطعة، كما تندرج الشخصية المصرية في ثنائيات البيئة: الصحراء والوادي، القرية والمدينة، السلطة والشعب، حتى تصل إلى التجانس بين الزمان والمكان»، أي تتناغم سمات الشخصية الوطنية مع بيئتها الطبيعية والثقافية.
أما الثانية، فلها علاقة بالشخصية العراقية، التي يشير فيها إلى ما كتبه علي الوردي في العام 1951: «إن الفرد العراقي يعاني من الازدواج، وهو مبتل بداء دفين هو داء الشخصية المزدوجة». العراقي - والكلام مايزال للوردي - «أكثر هياماً بالمثل العليا في خطاباته ولكنه في الوقت نفسه أكثر انحرافاً عنها وأقل تمسكاً بالدين، وأكثر انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية. والازدواج هنا لا يعني، ان العراقي منافق مرائي، بل هو ذو شخصيتين، إذ يعمل بإحدى شخصيتيه، وينسى ما فعل آنفاً بالشخصية الأخرى». واقترح علاجاً لهذه الحال بثلاثة أنواع هي: إزالة حجاب المرأة، حتى تتوحد القيم ويتشابه الرجل والمرأة في ما يفهمان وينشدان من أهداف، وثانياً، تقليل الفارق بين اللغة الدارجة واللغة الفصحى، وثالثاً: تعليم الأبناء ان القوة لم تعد قوة فرد إزاء فرد، أو سيف إزاء سيف، إنما هي قوة العلم والصناعة والنظام.
بيد ان ثمة ازدواجية من نوع آخر تتسم بها الشخصية الخليجية من وجهة نظر خلدون النقيب، وهي انعكاس لازدواجية ثقافة البداوة والعمران، وتعبير عن انفصام تلك الشخصية بين تراثها القيمي الجمعي وقيم المجتمع المعاصر، إذ يمتد هذا الانفصام بين عالم الرجال وعالم المرأة في تقسيم عمل جنسي حاد وقاطع. من زاوية أخرى في تحليله، تتخذ علاقة الفرد بالسلطة في التراث القبلي نمطاً ذا خصوصية ثقافية عربية بواسطة «الأزلام»، أي الأعوان والأتباع، الذين يدينون للزعيم بالولاء الشخصي المحكوم بالمصلحة الشخصية «استنفاع وتنفيع»، أي استنفاع الزعيم بمنصبه، وبنفوذه وسلطته، وتنفيع أزلامه بحسب درجة ولائهم الشخصي له، والزعامة الاستزلامية تستمد شرعيتها من تراث القبيلة وتنظيماتها.
وعلى إثر ذلك، يستنتج النقيب أن ما يجمع فكرة الشخصية الازدواجية، والزعامة الاستزلامية هو التراث القبلي المشترك في طريقة توزيع الثروة وفي شرعية مؤسسة الزعامة، وعليه فإن الدافع المحرك للسلوك السياسي، هو المصلحة الشخصية لكل المتعاملين في اللعبة السياسية، والزعيم يصل لمركزه أو مكانته عن طريق التحالفات أو التنافس الفئوي -القبلي ويصبح مركز شبكة العلاقات في ميدان النشاط المختص به. ويتوصل أيضاً، إلى تقارب الشبه ما بين الشخصية الخليجية المعاصرة بالزعامة الاستزلامية التي يطغى فيها إشباع الرغبات الخاصة في السلطة والثروة، فالزعيم المتبوع يستولي على الموارد ويكافئ الذين يظهرون له الولاء الشخصي، إذ يلعب انتشار داء «التمصلح» في هذه الشخصية دوراً فعالاً يسوغه الوضع الطبقي، وفشل غالبية التشريعات التي تحرّم قبض العمولات والغش، واستغلال المنصب، والاستنفاع والتنفيع، وتدعمها أنماط سلوك الاستهلاك المتعي الهستيري.
هذه السمات مجتمعة، تشكل في رأيه معوقات لقيام دولة المؤسسات التي لن يفيد معها أي علاج سوى تحرير الشخصية الخليجية من داء التمصلح - الاستنفاع والتنفيع.
وفي موضع آخر يصب في السياق ذاته، من كتابه «في البدء كان الصراع» يشير إلى عبارة لغرامشي: «ان القديم يموت، والجديد لا يستطيع أن يولد. ولذلك، يظهر في الفترة الفاصلة بينهما الكثير من الأعراض المرضية المروعة»، حدّد المؤلف على ضوئها، الأعراض المروعة في مجتمع الرفاهية الذي نعيشه بثلاثة مظاهر، الأولى: ضعف الالتزام بالقيم العليا القديمة، وعدم تبلور قيم عليا جديدة فاعلة وموجهة للسلوك، من أمثلتها: التسامح، الديمقراطية، المواطنة، الانضباطية، إتقان العمل. يقول: «لو كنا نلتزم بها لما انتشرت بيننا ظواهر التطرف والتعصب الديني والطائفي والإقليمي، فهذا التطرف والتعصب لا يقتصر على الأقلية إنما يمتد إلى الغالبية»، الثانية: هي الخوف من التعددية وعدم التسامح والمرونة وطلب الانصياع المطلق الأعمى تمثل مظهراً من مظاهر الشخصية التسلطية. أما الثالثة: فهي فقدان قيم الانضباطية وإتقان الإنسان لعمله وصناعته وحرفته قدراتها على توجيه السلوك. وعليه، إذا ما مزجنا الأعراض المرضية المروعة، التي تنتهي بالتعصب والسلوك اللاديمقراطي إزاء الآخرين، والتسيب وعدم إتقان الأعمال، والشخصية الازدواجية والاستزلامية التي تفرز داء التمصلح - الاستنفاع والتنفيع والاستهلاك في إطار تحليلي، مضاف إليها بعض الانطباعات والحقائق بشأن ماهية الشخصية الوطنية في مجتمعنا، فعلى ماذا سنحصل؟
سنحصل حتماً على نتيجة في موازاة هذه القراءة الفصيحة ومخاطرها، تفرض وتدفع بضرورة مقاربة التشخيص بالشواهد والأرقام من حولنا، إذ ومن نظرة انطباعية خاطفة ينكشف الوضع الذي صار أكثر تعقيداً يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر عبر مؤشرات ارتفاع معدلات الفقر والعوز وزيادة حجم الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى ومعاناتهم من البطالة وشحة المداخيل والفرص، فضلاً عن استشراء الفساد واللصوصية للمال العام «سرقة الأراضي» وتنامي مصالح المتنفذين والمفسدين. وهي نتيجة تدعو لتوجيه أصابع الاتهام إلى من يقضم المصالح العامة، ويشوه فكرة دولة المؤسسات ويعوق سبل تحقيق المشروعات الحضارية، لا بل ومحاسبتهم، فجريمتهم المضاعفة اليوم بحق، لا تغتفر!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1264 - الإثنين 20 فبراير 2006م الموافق 21 محرم 1427هـ