في ظني أن المسرب الأول الذي منه يتسلل وميض الوطنية، وينتشر عبره حب الناس والانتماء للجماعات البشرية هو مكان النشأة وما ينطوي عليه هذا المكان من بيئة اجتماعية وأخرى طبيعية تسهمان في نحت شخصية الإنسان من خلال تفاعله معهما وانصهاره في حركتهما وتوسمه بخصائص تختلف عن ذاك الذي نما في غير بيئة، وتخصه بشيء من فرادتها، حيث يرضع الطفل منذ اللحظة الأولى التي فيها يطلق صرخته وينتشر ضوء المكان في عينيه، ويتفشى عبق زواياه في أنفه ويتدثر بأريحية عطفه وحنانه، حليباً اجتماعياً مدراراً تجمعت فيه قيم وعادات وتقاليد ستظل إلى الأبد عالقة به تستظهر ذاتها، دائما، أو بين وقت وآخر، كل بحسب تأثره بالتغير الذي يعصف بالمجتمعات في شكل سلوك، وتصيغ شخصيته، وتغدو شارة على هويته وعنواناً دالاً على مستقره وإقامته، ولا يجوز لأحد لا يقيم وزناً لانتمائه المكاني ولا للعلاقات الإنسانية في محيطه الاجتماعي ادعاء الوطنية، اذ أن الوطنية هي خليط شعوري وموقف عاطفي من حب المكان والانسان يمكننا معرفته من خلال عمق الإيمان بهما ودرجة الانتماء إليهما وهذا لن يتأتى إلا عبر محكات وطنية يبقى تقديرها وقياسها في طي الحدث ذاته، ولتعزيز رابطة الحب بين الإنسان وأرضه يتعين عليه، أي على الإنسان، العمل على توفير قدر من احتياجات الناس والمطالبة بتحسين ظروفها المعيشية، وأعلم إننا بطبيعتنا، وبحجم الحب الذي نختزنه لأماكننا نسعى دائما الى تحقيق الخير لها والعمل على تطويرها، والبحث عن السبل الكفيلة برفع مكانتها وإعلاء شأنها بين مدن وقرى الوطن. وليس في ذلك ما يثير الاستغراب أو يدعو إلى العجب، إذ قيل في مأثورنا العربي «من علامة الرشد أن تكون النفوس الى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة».
والتي أنا أشتاقها، على الدوام، وأتوق اليها هنا هي قلالي، قريتي التي فيها ولدت، وبها ترعرعت، ومازلت متمسكاً بحبها ، ولن أبارح سكناها، الا اذا كتب عليّ القبر مستقراً. وتذكيراً للمعنيين بوجودها المادي، الذين سيرد ذكرهم إعلاناً أو مواربة في سياق ما سأطرحه من المشكلات التي تستصرخهم في ايجاد مخارج تفتح باب الأمل لأهالي القرية، فإنها، أي قلالي، اتخذت على الدوام شكل هلال، فصارت نصف دائرة تقريبا وتتموضع، جغرافياً، في الجزء الشمال الشرقي من جزيرة المحرق، وهي في ذلك مرغمة لا مخيرة، ويرجع سبب ذلك الى عدم امكان التمدد العمراني باتجاه الجنوب وذلك لوجود مطار البحرين الدولي، نافذتنا الى العالم، كما توقف نموها باتجاه الغرب، ليس لعيب في النمو وإنما في الاتجاه! مثلما حالت مساحة الجغرافيا دون نمو قرية سماهيج، الجارة العزيزة، إلى الشرق، لذات السبب الذي أوقف نمو قرية قلالي، لتفرض الجغرافيا منطقها في رسم قُبلة أسطورية بين القريتين عرفانا بعلاقة تاريخية من التسامح، وتخليداً لذكرى حب لن يهرم. وتقع، قرية قلالي، على شارع أرادوس، الذي تمنيت لو أن خدماته التي يقدمها لمستخدميه تطال جمالية مسماه، أو تلحق بشيء من شهرته، وهي قريبة من أمواج أحد الآفاق التنموية الواعدة في البحرين، إذا ما اختطت البحرين سياسة قائمة على تنويع مصادر الدخل، وجعل الموضوع السياحي في القلب منها من دون كبير اكتراث من التهويل الذي جله لافتات تخلط الديني بالسياسي لحرف المسار الليبرالي للسياسات الاقتصادية الحكومية وتوريطه بمسار آخر ثبت فشله في أماكن كثيرة من العالم، وأقصد العالم العربي والإسلامي بطبيعة الحال. كما أن لا شيء يفصلها عن مدينة الحد الا بعض من حكمة! تعيد قلالي والحد في دائرة انتخابية واحدة مثل ما كان في انتخابات العام 1973م، ذلك أن إلحاقها جزءاً من دائرة انتخابية في المحرق، أعتقد، بأنه إلحاق جائر، وانتزاع فيه الكثير من القسوة لأبناء قلالي، لأن نتيجتها دائماً شبه محسومة لصالح الجزء الأكبر، وسيبقى وصول نائب من أهالي منطقة قلالي من المستحيلات التي هي ملء السمع اذا ما اضفناها إلى الغول و العنقاء والخل الوفي أصبحت أربع. بالإضافة إلى توحيد المؤسستين الرياضيتين في واحدة، وفتح حوار جديد يؤسس لعمل مشترك يقرب وجهات النظر في ما يتعلق بفتح فرع لجمعية الحد التعاونية في قلالي وفق تأسيسات جديدة تضيف إلى المساهمين المؤسسين امتيازات اضافية.
أردت السباحة في بحر القضايا النائمة وتحريك مياهها لإحداث نوع من البلل يوقظ من نام، قاصدا التذكير بموقع قلالي لانتشالها من منطقة اهمال حكومي طال أمده واستحكم، وجَعْلِها حاضرة في مخططات التحديث التي تجريها الدولة في مدن وقرى المملكة كافة، لتنعم مثل ما هو حاصل مع كثير من مناطقها. ولست في وارد التقوَل بتقصير حكومي، فبرامجها الإنمائية كبيرة ومشروعاتها التطويرية كثيرة، ولكن ينقصها ميزان عدل في توزيع هذه البرامج ومباشرة هذه المشروعات. وهنا أتساءل ألم يكن لمن استوطن هذه الأرض وشيّدها حقا في أن يتمتع بأرض مجانية تطل على البحر؟ فحتى سبعينات القرن الماضي كانت بيوت أهالي المنطقة إما تطل على البحر مباشرة، أو أنها لا تبعد عنه سوى أمتار معدودة، فمن لا بحر له لا أرض له! ومثال على أن الحكومة تتابع عن كثب احتياجات الأهالي في المناطق المختلفة، فإنها استنت فعلاً حسناً، بدأ بمبادرات ملكية سامية عندما حرص جلالة الملك، مع بداية المشروع الإصلاحي، على إرسال وزرائه لتفقد احتياجات الناس. وقد أكملت الحكومة وواصلت هذه السنّة باتخاذها من المتابعة الموقعية أسلوباً للوقوف على الاحتياجات الفعلية للمواطنين. وفي هذا الإطار نشير إلى المتابعة الشخصية من لدن سمو رئيس الوزراء الموقر والتي أخيرها، وليس آخرها زيارته إلى حالة بوماهر التي ظلت ردحا من الزمن ترسف في النسيان. تلك الزيارة التي فجرت حبا لسموه كان مضموماً تحت الحاح الحاجة في منزل آمن يأوي الأبناء ويحافظ عليهم من الضياع. وذلك سعياً من لدنه بمتابعة شخصية لتوصياته فالمتابعة الميدانية أتاحت تجاوز الكثير مما يعتور العمل المكتبي من قصور.
كم نحن في قرية قلالي بحاجة إلى زيارة من مثل هذا النوع والتي يقف عليها المسئولون على الاحتياجات الفعلية لأهالي المنطقة، فأهل قلالي يستحقون شيئاً من الاهتمام يزيح بعض من هموم أولئك الفقراء الذين تقرر اعادة بناء أو ترميم بيوتهم الآيلة للسقوط ولكن الأمر يسير سيراً سلحفائياً. واذا كان الحديث عن الفقراء والمحتاجين فان في قلالي شريحة كبيرة منهم فلا أقل من أن تقوم وزارة التنمية الاجتماعية بدراسة الأوضاع المعيشية الضاغطة عليهم، ولذلك ما عليها الا التوغل في عمق قلالي، قلالي القديمة، ولا أقصد التوغل الكمي اذ أن المساحة صغيرة، ولكنني أقصد توغلاً اجتماعياً، ولا يقرنّها ما يحيط بالقرية من فلل فالمظهر الخارجي ليس حقيقة مرئية للداخل. كما أن شباب القرية بحاجة إلى ناد بديل عن هذا المبنى الخرب، يلم هذا التبعثر الذي يسببه قصور الخدمات التي يقدمها، لا لشيء وانما لعدم كفاية المبنى عن استيعاب مختلف المناشط التي يمارسها الشباب. وتجدر إلى أن نادي قلالي، وهذا لمؤسسة الشباب والرياضة معروف، من الأندية التي تأسست قديماً. ثم ألا يستحق الأهالي مخرجاً آمناً على الشارع الرئيسي، شارع أرادوس، فلا يوجد به إشارة مرورية ضوئية واحدة، حتى في المخرج الرئيسي من قلالي الذي تزدحم به السيارات دخولاً وخروجاً، ناهيك عن الحاجة إلى اعادة تأهيل الشوارع الداخلية في قلالي القديمة وانشاء شوارع جديدة في المناطق التي أنشأت وصار على سكناها أكثر من عشر سنوات.
قائمة الحاجات تطول ولكننا نكتفي بذلك ونرجو من أصحاب القرار، كل فيما يخصه، التوجيه لجهات الاختصاص بالنظر فيها على وجه السرعة. فأهل قلالي، أهل كرم مورس بمشاعية، وتربة اجتماعية كانت موئل تسامح تكرس في تربتها عبر ممارسات لم تخرج عن المألوف البحريني الأصيل الا لجهة الاضافة وهذا ابداع
العدد 1263 - الأحد 19 فبراير 2006م الموافق 20 محرم 1427هـ