خلال زيارتي الأخيرة إلى بكين التي امتدت 12 يوماً، وذلك لحضور ندوة العلاقات العربية الصينية. سألخص في هذه الحلقة وبشيء من العجالة والتركيز، ماذا يريد الصينيون من العرب؟ والتقيت كثيراً من الفعاليات السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية. وكان آخرها لقائي نائب رئيس جمعية الصداقة الصينية مع الدول الأجنبية وانغ يونزي، وكان معه سفير الصين السابق لدى الكويت وعمان قوانزي هوي وكذلك مديرة غرب آسيا وشمال إفريقيا في مقر هذه الجمعية دجيالينغ. يقول هؤلاء النفر الكرام إن بعد حوادث ساحة تيان ان مين الدامية في يونيو/ حزيران 1989 وما يطلق عليها حركة ربيع بكين وجماعة الطلبة المنادين بالديمقراطية وتحقيق الاصلاحات السياسية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية. إذ لا يخفى أن هذه الحركة مدعومة سياسياً وإعلامياً من الدول الغربية وخصوصاً أميركا، وبعد هذه الحوادث فرضت هذه الدول على الصين عقوبات اقتصادية كاملة. وعلى رغم ذلك فإن الصين تجاوزت هذا الحظر الاقتصادي وخرجت منه سالمة، وبقيت حتى الآن تعتبر أميركا الشريك الاقتصادي لها ومهما تعقدت العلاقات السياسية وتشابكت المصالح بينهما. وإن السوق الأميركية أهم سوق واعدة للبضائع الصينية. ويقول العارفون ببواطن الأمور وبالشأن السياسي العربي الصيني إن الصين تذكر بالتقدير والعرفان موقف ثماني دول عربية في العام 1971 من القرن العشرين مشاركتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تبني ورعاية مشروع قرار بإعادة المقعد الشرعي للصين في الأمم المتحدة بدل الصين الوطنية أو جزيرة تايوان. ويقولون انه في صيف 1989 بعد حوادث ساحة تيان ان مين مباشرة قام رئيس الجمهورية الصينية يانغ شان كون بزيارات حميمة لكل من مصر والكويت والإمارات وسلطنة عمان، وذلك بقصد تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول العربية وامتصاص أية عقوبات أميركية أو غربية على الصين. وبقيت الصين تدعم القضايا العربية العادلة ومنها إقامة الدولة الفلسطينية ومن ثم تحقيق الاستقرار والأمن المأمول في منطقة الشرق الأوساط الذي طال انتظاره. ومن ناحية أخرى، يعتب الصينيون على الدول العربية أنه على رغم الامكانات الكبيرة المتاحة لتفعيل التكامل الاقتصادي بين الجانبين فإن هناك بطئاً في انجاز ذلك مع أن لدى الدول العربية مشروعات وخطط لتطوير واستغلال مواردها الطبيعية، ولاسيما مشروعات الغاز والنفط والمعادن الأخرى. وفي امكانهم الاستفادة من خبرة وامكانات الصين الصناعية والفنية في هذا المجال، إذاً هناك استفادة مشتركة وقواسم متبادلة في الكثير من المجالات.
وفي السنوات العشر الماضية تضاعف التبادل التجاري إلى 10 اضعاف ليصل في العام 2004 إلى 36,6 مليار دولار. في ميادين الطاقة والاستثمار والعمالة. إلا أن الصينيين يطمحون إلى مضاعفة هذا الرقم وهم هنا يشيرون إلى أن التبادل التجاري بين الصين ومع كل من أميركا واليابان والاتحاد الأوروبي وكوريا يصل إلى أكثر من 100 مليار دولار سنوياً. وإن الصين تستقبل كل عام أكثر من 50 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية وجزءاً قليلاً من الدولة العربية. وإن الاستثمارات الصينية في العالم العربي قليلة جداً إلا انها في زيادة مطردة خلال السنوات القليلة الماضية. لاحظت أن كثيراً من المسئولين الصينيين مرتاحون لتطور علاقتهم التجارية والنفطية مع السودان التي بدأت بصورة كبيرة ابتداء من بداية سنوات التسعينات من القرن الماضي هذا ما ذكره السفير السوداني عبدالحافظ إبراهيم وذلك في ورقته القيمة التي قدمها لهذه الندوة وسأقتطع منها ما يتعلق بالتعاون في مجال الطاقة والنفط. وخصوصاً أن الصين أصبحت مستوردة للنفط تلبية لحاجتها المتعاظمة إلى الطاقة لكي تواكب نهضتها الصناعية والاقتصادية. اتجهت إذاً الصين إلى الاستثمار في مجال استخراج النفط في السودان. وهذا التوجه من الصين قابله تطلع السودان إلى التعاون مع الدول الآسيوية في حقل استغلال واكتشاف النفط والغاز في أراضيه. مثل ماليزيا والهند أخيراً إذ أبرمتا اتفاقاً نفطياً مع السودان وذلك بعد تصفية أعمال شركة شفرون الأميركية للنفط. وساهمت شركة بترول الصين الوطنية في شراكة لاستغلال حقول بترولية سودانية بنسبة 40 في المئة، كما أنشأت مصفاة بترولية ضخمة بالخرطوم، ووفرت التمويل المالي والتقنية المطلوبة والمتاحة والاحتياجات الفنية والتدريبية. وأهمية هذا التعاون بين البلدين أن الصين لم تربطه بأي شروط سياسية تعجيزية وإن من شأنه أن يؤدي إلى تملك السودان ثرواته النفطية ووسائل إدارتها بحسب إرادته. وهناك مشروعات كبيرة لتطوير الصناعات البتروكيماوية والصناعية المعتمدة على مستخرجات النفط. وتقوم الصين حالياً بإعادة بناء وتأهيل البنى التحتية في السودان إلى جانب المشاركة في المشروعات الزراعية وتوفير الأمن الغذائي للسودان الذي يحتوي على أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة ولم تستغل حتى الآن الاستغلال الأمثل.
كما قامت الصين ببناء قاعات وقصور المؤتمرات أخيراً، وفي السودان الآن الأكثر من 60 ألف عامل صيني فني وتقني يعملون هناك. ولاحظت أن الطائرة التي أقلتني إلى بكين بها أعداد كبيرة من العمال الصينيين والذين يعملون في حقول النفط والغاز في السودان. وكثيراً ما أشار الصينيون إلى تقديرهم لموقف السودان الصديق وصموده أمام الضغوط الأميركية للتخلي عن التعاون النفطي مع الصين، وأميركا والغرب يستغلون وضع التوترات العرقية في إقليم دارفور فيجعلونها أكثر اشتعالاً وتوتراً ومزيداً من إراقة الدماء بدلاً من إنهاء الصراع ووقف أعمال النهب والسلب والعنف وإحلال السلام عن طريق المفاوضات بين الجماعات السودانية المتصارعة. والخشية من أن ينقل ملف هذا الإقليم الغني بالنفط والغاز إلى الأمم المتحدة وفرض عقوبات أخرى على السودان والمثقل كاهله بشتى أنواع المظالم والمآسي البيئية المحلية والسياسية الدولية. وعلى هامش هذه الندوة المهمة دار لغط كبير ونقاش واسع بين أطراف الجانبين العربي والصيني ومفاده أننا كصينيين يملكنا العجب العجاب من إخفاق الدول العربية ومنذ أكثر من 50 عاماً منذ إنشاء الجامعة العربية في تفعيل العمل العربي المشترك ولن نذهب بعيداً من رفع شعار الوحدة العربية التي أصبحت ممجوجة من كثرة ما يرددها العرب في أدبياتهم السياسية المكرورة من إشادة بالتضامن العربي ووحدة المصير المشترك بينما يقابل ذلك المزيد من الشقاق والانقسام وتراجع في الحد الأدنى من التعاون البيني بين الدول العربية.
لقد بح صوت الأصدقاء الصينيين في كل المناسبات وعلى مختلف الأصعدة الحكومية والأهلية. إنه لابد من خطط اقتصادية واجتماعية ناجحة وتحقيق الإصلاحات السياسية، كما حدث داخل القيادة الصينية العليا في السنوات القليلة الماضية. لابد من تعزيز السلم والاستقرار الاجتماعي وتحسين مستوى حياة الناس وتحقيق الرفاه الاجتماعي. يقول هؤلاء الصينيون نحن ضد مقولة كثير من الدارسين الأوروبيين والأميركيين من أن العرب لا يمثلون جسماً عربياً واحداً وإنما هم ثقافات متباينة بل ومتناقضة ومتباغضة. وهذا أيضاً ما كانوا يروجون له من أفكار بشأن الصين في السابق، حتى يومنا هذا في حين أنه يسود أوساط الصينيين جو من العمل الجماعي على رغم اختلاف لغاتهم من كنتونية ومندرين ولغات أخرى لأقليات عرقية. ولا يخفي بعض الأكاديميين الصينيين خوفهم وهواجسهم من المخططات الأوروبية والأميركية التي تسعى إلى تفتيت الصين وتمزيق أرضها حتى لا تكون منافساً حضارياً واقتصادياً. وإن الصين تلقت دروساً وتجارب من الحقبة الاستعمارية البغيضة ابتداء من 1900 تحديداً وإن كان الاستعمار الأوروبي بدأ في الصين منذ القرن السابع عشر، وأخيراً إن في تاريخ الطرفين العربي والصيني أموراً متشابهة فكلاهما عانى من الاستعمار الأوروبي ومن هيمنته على مقدراتنا ومكتسباتنا الاقتصادية. وإن ما يهم الصين اليوم زيادة التعاون التجاري والمالي والاقتصادي مع الدول العربية وخصوصاً السعودية ودول الخليج الغنية ونتطلع إلى إقامة شراكة اقتصادية واستثمارية بين الجانبين. وعلى دول الخليج الاستفادة من الخبرات الصينية والتقنية والتسهيلات الاستثمارية. وإن الصين هي سوق المستقبل الواعد وهي تقوم بدور مهم في الاقتصاد العالمي وهدفها تحقيق الأمن والسلام في العالم وخصوصاً في قارة آسيا التي ينتمي إليها العرب والصين.
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1262 - السبت 18 فبراير 2006م الموافق 19 محرم 1427هـ