على مدى آخر عقدين من القرن الماضي تم عقد ما لا يقل عن 300 منتدى وورشة عمل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية والوطن العربي والعالم الإسلامي لمناقشة واقع الحركات الإسلامية بوصفها «ظاهرة» متعددة ومتنوعة الأبعاد، دينيا وثقافيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
أما الباعث لتلك المناقشات المكثفة فقد كان ولايزال «سياسيا» في الدرجة الأولى، إذا لم نقل بالمطلق. وأصبح التعبير «السائد» إن لم يكن «المرادف» لتلك الحركات هو «الإسلامي السياسي» إذ تفرع عنه تعبيران «الأصولية» و«التطرف».
ثم دخل العالم «ألفيته الثالثة» فحكم على هذه الحركات بصفة «الارهاب» ودعت أميركا إلى «تحالف دولي» لمكافحتها على مستوى العالم إثر تفجيرات سبتمبر/أيلول 2001 في برجي التجارة العالميين (نيويورك) ومبنى البنتاغون في واشنطن. وربطت المكافحة الدولية بالاستجابة الشرطية لكل أبعاد «العولمة الأميركية المعاصرة» التي سبق أن أعلنها الرئيس جورج بوش (الأب) في خطابه للكونغرس بالتاريخ نفسه (11 سبتمبر) ولكن في العام 1990.
وتحمل تلك الأبعاد خصائص «النهج الأميركي» وهي «الليبرالية» التي تتضمن «الديمقراطية الغربية» أساسا «للنظام السياسي» والقيم «الغربية لحقوق الإنسان» ومبادئ «السوق الحرة» و«التجارة العالمية المفتوحة» والنسق الأميركي في التفكير «البراغماتي» وترجمته العربية «النفعي» الذي يستند بدوره إلى السلوك العملي «الأواني» وكذلك النسق «العلماني» الذي يحيد الدين عن السياسة ولا يلغيه في المجتمع شأن الفلسفات «الوضعية» التي ترفض «الميتافيزيقيا» و«اللاهوت» معا.
وهذه كلها «منظومة قيم مركبة» تتعارض مع الأيديولوجيات والفلسفات التاريخية، والأديان والثقافات القومية، والانتماءات الوطنية، وخيارات «الخصوصية» لأي مجتمع مفارق، أيا كانت بواعث هذه المفارقة، دينيا أو ثقافيا أو اقتصاديا أو سياسيا أو قيميا.
غير أن التوظيف الأواني البراغماتي لمنظومة النهج الأميركي تطغى بالضرورة على أساسيات هذا النهج إذ تبيح أميركا لنفسها وتبعا لـ «خصوصيتها» اتخاذ ما يتعارض مع علمانيتها وليبراليتها وحقوق الإنسان. إلى استعلاء عنصري واقصاء للآخر، كالمجتمع الإسرائيلي، هنا يصبح المنظور الأميركي استراتيجيا بحتا يرتبط بمفاهيم «الأمن القومي» الأميركي العابر للحدود.
وبجانب هذه النظرة الاستراتيجية القومية ذات الطابع الأحادي والمتناقض مع المنظومة القيمية للعولمة الأميركية نفسها ظهر تعبير «الكيل بمكيالين» وبالذات في تناول قضايا «الوطن العربي» بالمفهوم العربي أو «الشرق الأوسط» بدلالاته الاستراتيجية الدولية والإسرائيلية الذي يراد له الامتداد «جيو - بوليتيكيا» لأبعد من حدوده القومية.
فإذ تطلب أميركا من العرب أن يتعايشوا مع «إسرائيل» بمنطق براغماتي عملي أواني يتجاوز مقوماتهم القومية والدينية وأن يبطلوا ذاكرتهم التاريخية، فإنها لا تطلب من «إسرائيل» المقابل الديني نفسه (محو التلمود) والقومي (محو الصهيونية) والتاريخي (أرض الميعاد).
وحين تدين العمليات الاستشهادية بوصفها «ارهابا» فإنها لا تطلب من «إسرائيل» وقف «الاستئصال» ولا إدماج الفلسطينيين في مجتمعها الديمقراطي على أسس تراعي «حقوق الإنسان» و«الليبرالية» ومفهوم «المواطنية المتكافئة». كما أنها لا تطبق على الفلسطينيين مبادئ السوق الحرة والتجارة الحرة ولا تنظر إلى حق العودة بمنطق حقوق الإنسان وأقلها «لم الشمل العائلي» لآلاف «النازحين» داخل فلسطين وملايين «اللاجئين» الذين مازالوا في «المخيمات» المقاربة لما كان من «محميات هندية» أميركية على امتداد المحيط العربي في لبنان وسورية والأردن ومصر.
فلوا أخلصت أميركا الانتماء إلى قيم العولمة التي تبشر بها «نظريا» وتناقضها «مسلكيا» لكنا أول الداعين إلى «المقاربة» معها، بل ومناداتها لقيادة العالم بأسره، إذ أن لديها «القوة والامكانات» التي تعوزنا لفرض هذه القيم على مجتمعاتنا المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، التي مازالت تعيش مرحلة ما قبل الثورة الصناعية الأولى ضمن «سبات» بدوي وزراعي طبيعي ويدوي على رغم «مظاهر التحديث الشكلي» الذي لا يرتبط بأية حداثة عقلية نقدية أو حضارية.
وقتها لن تطلب منا العولمة الأميركية أن ننفض أيدينا عن موروثنا وأيديولوجياتنا وثقافتنا وحتى «تديننا»، لأن أميركا نفسها وحين تصل إلى حال أن تطلب منا «العولمة» على هذا النهج العقلاني فإنها هي نفسها - أي أميركا - تكون أخذت بهذه العقلانية للعولمة.
والعقلانية التي أعنيها ليست هي دواعي «المنطق» الذي يستجيب لواقعنا المزري «اللاعقلاني» والتكيف معه، ولكنها تلك العقلانية التي تدفع بقوى التجديد والتحديث والحداثة في مجتمعاتنا لنستخلص من داخل مجتمعاتنا نفسها موروث العقلانية والتجديد الذي غالبته وغلبته مراحل انحطاطنا التاريخي والفكري والسياسي. وهي مراحل «سالبة» ولكنها مازالت مؤثرة فينا. ليس على مستوى «الأنظمة المحافظة» والإسلاميين في مختلف حركاتهم فقط ولكن حتى على مستوى من يدعون الحداثة والليبرالية والعلمانية، يسارا كانوا أو وسطا، قوميين كانوا أو أمميين، ثوريين كانوا أو معتدلين.
ويرجع السبب إلى أن تفكير مفكرينا في «الحداثة» و«التحديث» - إلا قلة منهم - لا يأتي بمنطق التجديد الجدلي من «الداخل» المكون لنا تاريخيا، بقدر ما يأتي ترجمات من «الخارج» إذ نريد أن نصل إلى «نهاياتهم الفلسفية والفكرية» في التحرر والعقل النقدي التحليلي من دون أن نؤسس على بدايات هي من أصول تكويننا الثقافي.
ولدينا من هؤلاء كثر، منهم أبوعلي الحسن ابن سينا (980/1037م) الذي لقب بـ «الشيخ الرئيس» و«جامع الرئاستين» و«المعلم الثالث» بعد أرسطو والفارابي. وهو الذي وحد بين قوانين «العقل» وقوانين «الطبيعة» بانسجام مع الوحي. وأبونصر الفارابي (874/950م) الفيلسوف العقلاني وواضع قواعد الموسيقى، وعبدالرحمن بن خلدون (1332/1406م) مؤسس فلسفة علم الاجتماع والتاريخ. وأبوالوليد بن رشد (1126/1198م) الذي يعرفه الغرب الأوروبي بأثيروس لمساهماته العقلية التجديدية التي دفعت بفكر الاصلاح والتنوير في أوروبا حين انطلقت في القرن السادس عشر كما أثر في التجديد اليهودي عبر مدرسة ابن ميمون. ومنهم من اكتشف العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية وهو ابن طفيل الأندلسي (1106/1185م) الذي ابدع قصة «حي بن يقظان» وأخذ منها الغرب قصة (روبنسن كروزو) الذي أنشأته الظباء ثم «تعقل» الكون. ومنهم ابن الصايغ محمد بن باجه (المتوفى العام 1139م) الذي أوضح مراحل التطور العقلي بأفضل من أوجست كونت وبالفلسفة العقلية التأملية.
من هؤلاء العقلانيين النقديين التحليليين يمكن أن نورد فوق الأربعين، وبموازاتهم من استخدموا «العقل» في العلوم التطبيقية من بصريات كابن الهيثم (965/1039) وتأسيس لعلم الجبر كالخوارزمي (775/835م) ولاسمه يرجع علم اللوغرزم، وأبو علم الكيمياء جابر بن حيان (737/813م) ورائد التمييز الطبي بين الحصباء والجدري وواضع أسس المتابعة السريرية للمرضى أبوبكر الرازي (854/923م) وإلى هؤلاء يضاف مئة أو أكثر من الاعلام لو شئنا.
هذا الموروث من الفكر العقلاني ومناهج التطبيق العلمي هو الذي أسست عليه أوروبا انطلاقتها الفلسفية والعلمية منذ القرنين الثاني ثم الثالث عشر وبدأت بتطويره في القرن السادس عشر.
أما نحن وبحكم مراحل الانحطاط الثقافي والفكري والسياسي التي تلت القرون الهجرية الثلاثة الأولى - على مستوى المجتمع وليس الأفراد بعد ذلك - فقد غيبنا ذلك عن وعينا الفكري والحضاري واستسلمنا للتخلف الاقتصادي والاجتماعي والفكري من جديد، ولم نستدع من مناهجنا التربوية المعاصرة هذا الموروث النقدي العلمي التجديدي. ثم حيث ترجمنا نهايات أوروبا الفكرية والفلسفية، فصلنا تلك النهايات عن السياق الجدلي الأوروبي الذي بقى يحاورها ويصارعها ويرفضها ويتقبلها مدى أربعة قرون، كما لم نستطع أن نركب النهايات الأوروبية «المترجمة» على سياقنا الجدلي الذاتي، فأحدثنا انفصاما مزدوجا. حين فصمنا نهايات الحضارة الغربية عن تجربتها، ولم نعيد تركيب نهايات موروثنا ليدفع بتقدم واقعنا.
لهذا يأتي علماء التغيير الاجتماعي من العرب المعاصرين بما يستنكره عليهم مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون حين يجعلوا غالب همهم التزين بـ «مواصفات الغالب». ويأتي انصار الحداثة من العرب المعاصرين بما يستنكره عليهم ابن رشد الذي جمع في فصل المقال ما بين الحكمة (الفلسفة العقلية) والشريعة من اتصال. ثم تأتي الحركات الإسلامية المعاصرة لا بما يستنكره «المعتزلة» فأولئك لا نستشهد بهم، ولكن بما يستنكره كل رواد المنطق العقلاني الذين رفضوا «التهافت» اللاهوتي وجمعوا بين الوحي والعقل، وبين الانسان والطبيعة، وبين التغيير وقوانينه، وبين العلم وعمارة الكون.
لو استلهمت «مناهجنا التربوية» هؤلاء من موروثنا الديني والحضاري لتم التمييز قطعا بين «العقلانية» و«العلمانية» ولكان النقد لعلمانية الغرب توثيقا وتأسيسا موازيا لعقلانية الإسلام. ولتم التمييز بين «الحرية» وقيمة الإنسان، وبين «الليبرالية» التي تهدم قيمة الإنسان، ولكان التمييز بين «الأخلاق الفاضلة» و«البراغماتية النفعية الفردية».
مشكلتنا على الصعيد الحركي والفكري
إن مشكلة الحركات الإسلامية، وحتى الليبرالية والعلمانية واليسارية انها لا تأخذ بموروث هذه العقلانية النقدية وهي الوجه الآخر لـ «أصوليتنا» ومن خصائصنا ومن ذاتنا، ولا يمكن اتهمامها بـ «التغريب» أو «الأوربة»، فمتى تم الأخذ بها تم «التجديد النوعي» من داخل السياق الجدلي التاريخي.
كما أن الكثير من الأنظمة السياسية الحاكمة، وهي في مجملها ليست علمانية، حتى نظام بورقيبة كان يدعي «الاجتهاد» في الاسلام ليمنع تعدد الزوجات مثلا ولا يلغي الدين، فإنها اسندت وضع مناهج التربية والتعليم إلى من لا يؤمن بهذه العقلانية التراثية من الإسلاميين مع الايعاز الخفي لهم بأن يكون ما لقيصر لقيصر (السلطة) وما لله - سبحانه - لله (المنهج الديني). وحاول كثير من التربويين الإسلاميين التزام هذا الايعاز الخفي في ظل الأنظمة التي كانوا يوالونها، غير أن ما لله - سبحانه - قد التهم تدريجيا ما لقيصر وبمعزل عن وسيط (العقلانية) الذي غيب أصلا ومنذ البداية. فاكتشف قيصر (السلطة) نفسه أمام لاهوت يريد ما لقيصر، ليس بعضه ولكن كله، لاهوت ولا ابن رشد له ولا ابن خلدون ولا ابن سينا له.
ومن سوء طالع قيصر أن هذه اللاهوتية التي يسميها بعض العلمانيين «الوعي الزائف» تأتي ضمن فراغ أيديولوجي عجز عن ملئه التراجمة لعلمانية الغرب وليبراليته وثوريته بل إن هذا الفراغ الأيديولوجي جاء نتيجة لخطأ الثوريين القوميين خصوصا.
اغتيال مرحلة فكر النهضة
صعد الثوريون، الوطنيون والقوميون عبر الانقلابات العسكرية منذ نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات من القرن الماضي وتذرعا بهزيمة الأمة العام 1948 ونشوء «إسرائيل»، وعجز الأنظمة التي دمغت بالتواطؤ ووصفت بالرجعية، صعدوا لسدة السلطة.
ولأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وأنهم هم المعركة من والاهم هو مع المعركة، ومن ضدهم هو ضد المعركة، فقد أسكت العقل و«العقلانية»، ولاسكات العقلانية أغلق على «الحرية». فحبستا في محبسي «الثورية» و«الأحادية» ورهنتا بهما حتى انجلى الموقف العام 1967 فسقطت ذرائع «الحرس الثوري» كافة.
ثم تبين من بعد «النقد» و«النقد الذاتي» للهزيمة أن سببها راجع إلى «الاحتباس العقلي النقدي» وإلى اجهاض الثوريين لمرحلة تفاعلات فكر النهضة العقلانية في مصر وسورية ولبنان بالذات، وهي تفاعلات بدأت بتأثير الحوار المتنوع المضامين مع تراثنا من ناحية بهدف تجديده ومع الحضارة الأوروبية الغربية ومقولاتها من ناحية أخرى.
وقتها لمعت أسماء محمد عبده ورفاعة الطهطهاوي وحسن العطار وأحمد فارس الشدياق وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وإبراهيم اليازجي وسلامة موسى وقاسم أمين وعلي عبدالرزاق ولطفي السيد وشبلي شميل وحسين الجسر وشكيب ارسلان والطاهر بن عاشور وابن باديس وسالم بو حاجب ومحمد الخوجة ومحمد زاهد الكوثري وجمال الدين القاسمي وعبدالقادر البيطار وآخرون يتجاوزون الثلاثمئة في عدتهم.
هؤلاء أسكتوا جميعا بموجب البيان رقم (1) بعد أن تفاعلوا بفكر النهضة طوال الفترة من 1798 إلى 1945.
وباسكات هؤلاء «الثلاثمئة» من معاصري «فكر النهضة» في القرن التاسع عشر، أسكت أيضا «المئة» من الذين أسسوا للعقلانية طوال تاريخنا، فافتقرنا جميعا إلى التأسيس العقلي النقدي الحر، فلما نبتت الحركات الإسلامية من «داخلنا» جاءت لتجسد الافتقار وفي فراغ أيديولوجي، فأصبحت هدفا لعولمة أميركية تكيل بمكيالين، ولأنظمة سياسية ترفض العقلانية في مناهجها التربوية والسياسية، وتريد «الاحادية» و«الهيمنة» معا.
فهل ننتصر لأميركا وللأنظمة على حساب هذه الحركات الإسلامية مهما كانت «أصوليتها» أو «وعيها الزائف» أو «وصوليتها» أم ننتصر للعقل والعقلانية المستمدة من جدلنا التاريخي والحضاري والديني؟
إنها مساحة فراغ أيديولوجي يلعب فيها من شاء وكيفما شاء ويسدد الأهداف كيف شاء فحارس المرمى غائب وهو العقل والعقلانية فهل تفهم الأنظمة ذلك والأمر بيدها أم تستجيب لشروط العولمة الأميركية كغريق يستجير بقشة. فشروط العولمة عين الفناء والسقوط مهما كانت المقاربات معها من دون عقلانية
العدد 126 - الخميس 09 يناير 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1423هـ