حينما كان الخطاب محتكراً، كان المحتكر صاحب الحق الوحيد لا في القول فحسب، بل في فرض معايير الوجود والسواء البشري. وفي العصر الحديث تمكن الرجل الأبيض الغربي من احتكار الخطاب، فهيمن على مفهوم «الإنسان»، وكان هو وحده «الإنسان»، وكان «الإنسان» مقولة لا تتطابق إلا معه. وحين كسر هذا الاحتكار وصار للآخرين المهمشين صوت، تغيرت معايير السواء البشري، قوض التطابق الذي فرض بقوة الخطاب بين «الإنسان» من جهة وبين الرجل الأبيض الغربي من جهة ثانية. وقد استطاعت الحركة النسوية بموجاتها المتعاقبة أن تقوض ذكورية الخطاب المهيمن، وتمكنت من توسيع مقولة «الإنسان» لتشمل المرأة كما الرجل. ثم انطلقت حركة الزنوجة (Negritude) وانتهت بتقويض هيمنة الأبيض على الخطاب وعلى الوجود معاً. وفي أثناء ذلك تصاعدت حركات تفكيك الاستعمار وحركات ما بعد الاستعمار لتقوض هيمنة الغربي وخطابه الاستعماري المستعلي. وعندئذ فقط انفتحت حدود مقولة «الإنسان» على الرجل والمرأة، والغربي والشرقي، والمستعمر والمستعمر، والأبيض والأسود سواء بسواء. ولما تهاوت هذه الحدود توهم الجميع أن الصحف طويت والأقلام جفت، وأن مقولة «الإنسان» قد تطابقت تطابقاً تاماً وحقيقياً مع موضوعها، فإذا بهامشيين جدد يتصدرون المشهد، وتنطلق بتصدرهم حركة تشكيك جذرية في مقولة «الإنسان» وفي معايير السواء البشري الشائعة. وتمكن هؤلاء الهامشيون الجدد من تحقيق انتصارات في أقطار عالمية مختلفة. وحتى نكون أكثر تحديداً سنقول إن هؤلاء الهامشيين الجدد هم المثليون والمثليات ومزدوجو الهوية الجنسية (Bisexuals). كان هؤلاء الهامشيون مثال الشذوذ والانحراف، والشذوذ يعني الخروج عن القاعدة، فيما الانحراف هو العدول عن المعيار، وفي الحالتين كان الغيريون والغيريات (Heterosexuals) هم من يمثل القاعدة والمعيار، وبحكم قوة الخطاب التي حظي بها هؤلاء فقد تمكنوا من فرض التطابق بين وجودهم النوعي المخصوص وبين مقولة «الإنسان» ومعايير السواء البشري. وفي هذا الخطاب فإن الغيري هو مثال الإنسان السوي، وفي المقابل فإن المثلي هو مثال الانحراف والشذوذ. ولم تكن هذه المطابقة موضع شك واسترابة، لا من قبل النسويين ولا الزنوجيين ولا ما بعد الاستعماريين، بل كان كل هؤلاء يجهدون من أجل توسيع معايير السواء لتنسحب على المرأة والأسود والمستعمر. فلم تكن مقولة «السواء» موضع تشكيك من قبل هذه الحركات بقدر ما كانت موضع نقد بهدف توسيع حدودها. أما اليوم فإن الهامشيين الجدد يهددون بتقويض هذه المقولة، وتقويض ما يستلزمها من تصنيف البشر طبقياً إلى أسوياء وشاذين ومنحرفين، وقد أحرز هؤلاء انتصارات كبيرة في الولايات المتحدة، وفي هولندا وألمانيا وجنوب افريقيا وحديثاً في بريطانيا. وتمكنوا من تقويض مقولة «السواء» تقويضاً نهائياً، فشرعوا لقانون زواج المثليين، وهم يسعون اليوم لتشريع هذا القانون في كل مكان، وحين ينجحون فسيصبح وجودهم شرعياً وطبيعياً، وسيكونون جزءاً من مقولة السواء. وعندئذ لن يكون لهذه المقولة معنى أصلاً، لأن السواء لا يوجد إلا بوجود الشواذ والمنحرفين، وهو ينعدم حين لا يعود ثمة من شاذين ومنحرفين. وقد يولد هذا التقويض شاذين جدد لا ندري ماذا ستكون قضيتهم القادمة، فربما كانت هيئة الإنسان، أي شكله كمخلوق منتصب القامة وذي رجلين ويدين. قد يقول البعض: إن هذا جنون، وسيقول له الهامشيون الجدد: بل هذا هو منطق الزمن الجديد، منطق بلا معايير، وزمن بلا منطق. انتهى زمن الإجماع وبدأ برج بابل من جديد، فكما تبلبلت الألسن واختلطت اللغات فها هي المعايير والقيم والهويات والأوهام والسرديات الكبرى تتبلبل وتختلط وتتداخل وتتهجن...
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1257 - الإثنين 13 فبراير 2006م الموافق 14 محرم 1427هـ