العدد 1255 - السبت 11 فبراير 2006م الموافق 12 محرم 1427هـ

العراق... نموذج للظلمة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إعادة إعمار العراق لاتزال مجرد فكرة مطروحة منذ الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة على بلاد الرافدين. ومضت حتى الآن قرابة ثلاث سنوات على الاحتلال وما رافقه من تداعيات تمثلت في الحرق والخراب وتدمير للبنية التحتية، وحتى اللحظة لاتزال كل الوعود بشأن إعادة الاعمار وتحويل العراق إلى «نموذج» يحتذى في «الشرق الأوسط» مجرد كلام في كلام.

العراق الآن وبعد قرابة ثلاث سنوات على تحطيمه وتقويض دولته وتفكيك شبكاته الأهلية وتوزيعها على مناطق (تكتلات) طائفية/ عشائرية ثلاث... أسوأ من العهد السابق. فالكهرباء مقطوعة عن معظم المناطق وتذهب وتأتي في المناطق الأخرى. كذلك المياه، والتأمينات الصحية وغيرهما من مؤسسات اجتماعية تتكفل برعاية المواطن وضمان حاجياته المعيشية والتربوية والسكنية لاتزال في مستودعات الوعود الأميركية.

كل الأمور سارت في العراق عكس الرياح وجاءت النتائج مجموعة أصفار مكعبة. فالأمن مفقود في ثلاثة أرباع البلاد، والتوتر الطائفي يصعد ويهبط بحسب الامزجة. والأطروحات السياسية غير منتظمة وكل فريق «يغني على ليلاه». فالنموذج المقترح تحول إلى نماذج متفرقة مطبوعة بانقسامات محلية لا تتوافق على رئيس وزراء إلا بعد مفاوضات صعبة. ولا تتفق على رئيس للجمهورية إلا بعد تنازلات قاسية. ولا تتفاهم على صيغة سياسية إلا بعد تدخلات أجنبية وإقليمية تدفع بهذا الاتجاه أو ذاك. فكل الحلول مؤقتة وهي في مجموعها لا تساوي هذا الجهد أو تلك الكلفة الغالية التي دفع ثمنها الشعب بمختلف طوائفه ومذاهبه ومناطقه.

الشيء الوحيد المختلف أن الناس تملك هامشاً من الحرية للكلام وتذهب كل فترة للاقتراع لهذه اللائحة أو تلك... مضافاً إليه حق الناس في الاحتفال بمناسبات كانت ممنوعة أو مقموعة. حرية الكلام هي الجديد في اللعبة السياسية وغير ذلك يسير من أسوأ إلى أسوأ. حتى الكلام بات أحياناً يخضع للرقابة أو يعرض قائله للعقاب إذا خرج عن المألوف. فهناك عشرات الضحايا تذهب في حوادث قتل واغتيالات. فالكل خائف والكل ينتظر... وحتى الآن لايزال مشروع إعادة إعمار العراق مجرد أوراق موضوعة على الرفوف أو في الادراج. حتى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد (تاجر أسلحة) أبدى امتعاضه من تأخر برنامج الاعمار وتبرم مراراً من تفشي الفساد وانتشار الرشوة في صفوف أصدقاء أميركا وأعوانها.

«النموذج» إذاً لايزال في ثلاجة الاحتلال والزمرة التي زينت أو مهدت الطريق للانقضاض على العراق من الخارج تتعامل مع بلدها وكأنه «غنيمة» حرب تتقاتل وتتنافس على سرقته ونهب ثرواته. فما سرق من العراق لا يقدر بثمن بدءاً من نهب المتاحف والمعاهد والجامعات والمخازن وانتهاء بسرقة النفط وتهريب مردوده المالي... مضافاً إليها تلك الاتفاقات الوهمية التي وقعت مع شركات أميركية لبناء مشروعات وتحولت الموازنات إلى ودائع في حسابات مصرفية في أوروبا.

هذا «النموذج» الأميركي الذي وعد به الرئيس جورج بوش شعوب المنطقة ودولها بات الآن مدعاة سخرية من الناس. فهذا الوعد موجود مثله بكثرة في «الشرق الأوسط» وهناك عشرات النماذج على صورته ومثاله. والجديد فيه حرية الكلام معطوفاً على قديم وهو حرية القتل والسحل والسجن والاغتيال والمطاردة والتفخيخ وهدم المنازل ونسف الاحياء وجرف القرى في كل منطقة تتمرد أو تحتج على الاجتياح والاحتلال. مضت على الغزو الأميركي قرابة ثلاث سنوات وحتى الآن تعلن إدارة «البيت الأبيض» عزمها على استكمال خطتها. والخطة كما تقول واشنطن تشمل ثلاث نقاط: الأمن والاقتصاد والسياسة.

الأمن غير موجود ويكلف الموازنة الأميركية سنوياً قرابة 70 مليار دولار. والاقتصاد غير متوافرة شروطه الإنتاجية والإنشائية على رغم أن تقديرات «البنك الدولي» حددت كلفة إعادة الاعمار بموازنة قدرها 56 ملياراً فقط... أي أنها أقل من كلفة سنة واحدة من تمويل الحرب والقتل وتجديد الاحتلال.

أما السياسة فهي أيضاً عرضة للأخذ والرد. فالسياسة لا تختزل في حق الكلام وحرية الرأي فقط وإنما تشمل أيضاً احترام كلام الآخر وحقه في الاختلاف في الرأي من دون تعصب أو تشنج أو تأويل طائفي أو مذهبي أو عشائري لكل ما يقال ويشاع.

السياسة في الواقع العراقي وبعد تجربة مرة مضت عليها قرابة ثلاث سنوات لاتزال حتى الآن أسيرة عقليات طائفية ومذهبية وعشائرية فهي أقل من سياسة وأقرب إلى واقع مفكك زاد الاحتلال من تفككه واستغل تشرذمه لتأسيس «نموذج» يهدد وحدة الدولة ويعطل إمكانات توحيد هوية الوطن.

حتى الآن إذاً لاتزال فكرة إعادة إعمار العراق مجرد مشروع وضعت أوراقه في ملفات. وهذه الملفات لن ترى النور لأن هدف الاحتلال من نموذج العراق ليس تنوير المنطقة وإنما تخويفها وتهديدها وزعزعة استقرار دولها وبعثرة شعوبها المظلومة إلى عصبيات ومذهبيات وطوائف خائفة موتورة ومتوترة تتأهب للاقتتال أو للسباب أو للانتحار.

ربما هذا ما أرادته واشنطن أصلاً من مشروع احتلال العراق... فالهدف من «النموذج» ليس نشر النور وإنما اشعال النار. وبعدها ليس غريباً أن تعلن الولايات المتحدة في وقت لاحق عن نجاح خطتها الأمنية. فحين تكون الخطة توزيع الظلمة وإغراق المنطقة في الظلام فلماذا لا تتأخر خطة إعادة الاعمار؟ فهل هذا يا ترى هو سر انقطاع أو تقطع الكهرباء من العراق إلى لبنان؟ ربما... ولم لا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1255 - السبت 11 فبراير 2006م الموافق 12 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً