عليك بالعدل إن وُليتَ مملكةً
واحذر من الجور فيها غايةَ الحذر
فالملك يبقى مع العز البهيم ولا
يبقى من الجور في بَدْوٍ ولا حضَرِ
تاريخنا العربي يعلمنا عبر صفحاته المليئة بصور الظلم والعدوان السافر على الإنسان المواطن خصوصاً وغير المواطن عموماً، وخصوصاً أن كثيراً ممن نطلق عليهم «القضاة» العرب لا يستحقون المنصب الذي حازوا عليه أبداً.
من أولئك القضاة الذين مروا علينا كما تمر الأمراض الخطيرة في العصور الغابرة قضاة حكموا بجاهليتهم وعدم أهليتهم على رجال فكر نير بالقتل وأي قتل: تقطيع أوصال وتعليق على جذوع شجر وتمثيل أيما تمثيل وشتم ليس له مثال بمختلف الكلمات التي لا يستحسن بنا أن نورد منها شيئاً. قضاة جناة آخرون أيضاً حكموا في أمور سياسية وكان لهم دورهم المشبوه الذي يستشعره أحرار العالم في أقاصي الدنيا في قتل الأبرياء وتشريدهم في كل أرجاء المعمورة ليهنئوا بالعيش الرغيد الذي لم ينالوا منه سوى الخزي والعار وغضب الجبار الذي دفنهم أحياء في مزابل التاريخ الكثيرة والمنتشرة عندنا كما انتشرت المقابر الجماعية في «العراق» في عهد الظلم والطغيان وبلاد العرب.
يوم كنت طفلاً العام 1958 جاء «فاضل عباس المهداوي» قاضي «محكمة الشعب» وهو من القضاة المفوهين والعارفين للغة العربية معرفة كبيرة وقد تربع على منصة المحكمة مسنودا بما يمكن الاستناد إليه من قوة شرعية ومشروعة أو غير شرعية وغير مشروعة في الوقت ذاته تصاحبه صيحات الجماهير «لا تقل ما عندي وقت... أعدمهم الليلة» و«أعدم، أعدم، جيش وشعب يحميك» و«ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة». أما إيجابيات تلك المحكمة فالتاريخ يحدثنا هكذا: «وكان من أهم الإيجابيات في تلك المحكمة هو شفافية مرافعاتها إذ كانت تبث تلفزيونيا ومباشرة للجمهور العراقي ما مكن الجمهور العراقي من متابعتها وبالتالي نقدها بالصالح والطالح، إذ أصبح اسمها (محكمة الشعب) وأطلق عليها آخرون اسم (محكمة المهداوي أو محكمة الشغب!)» فقط محاكمة «عبدالسلام عارف» لم تبث تلفزيونياً غير أن وقائعها مسجلة بكاملها «في الجزء الخامس من كتب المحكمة المذكورة التي غطت أربعة وعشرين جزءا». يوم ذاك حكمت المحكمة على كثيرين بالإعدام ونفذتها وكان من بينهم المتهم الحالي «صدام حسين» غير انه ولكونه هرب لم ينفذ فيه حكم الإعدام ثم حصل على العفو القائل: «عفا الله عما سلف». كما لم ينفذ حكم الإعدام على «عبدالسلام عارف» الذي ترأس «العراق» بعد أن سحل رفيق دربه بطريقة غير إنسانية في شوارع بغداد رئيس وزراء العراق يوم ذاك «عبدالكريم قاسم» الذي يؤمن كثير من العراقيين حتى يومنا هذا بأنه لم يمت وانه حي يرزق يعيش في جبل من الجبال العراقية.
أما «محكمة الثورة» جاءت بقانون رقم 180 في ديسمبر/ كانون الأول 1969 وبدأت قبضتها الحديد (1974) التي ألغت أي دور يذكر لمحاكم العراق لإدارة شئون القضاء والنظر في شئون الأفراد فحدث ولا حرج فأفعالها يندى لها الجبين، إذ لا قانون ولا حق في الاستئناف أو الاعتراض فقد قتلت وحصدت رؤوساً كثيرة بريئة جداً فقد حكى التاريخ أن أحد العراقيين سجن خمسة وعشرين سنة بسبب التهمة التالية: «تصب استكانات الشاي «اللي ينقط عسل» في حضرة الإمام الحسين للزوار». ويالها من تهمة كبيرة وخطيرة تصدر من «صدام حسين» الذي ذهب فيما مضى من الزمان واحتمى مع «أحمد حسن البكر» عند حضرة الإمام الحسين وبكى عند شباكه أيما بكاء بعد أن خاف أن يذهب لحضرة «العباس» خوفاً من أن يشور فيه. أما الأحكام التي أصدرتها «محكمة الثورة» ضد «الرفاق» فحدث ولا حرج فلم تسلم رؤوسهم ولم تسلم رؤوس عوائلهم ولم تسلم رؤوس أبنائهم فجميعها طارت كما تطير الأغبرة في زمن العواصف. تلك محاكمات تسود لها الوجوه وتدمى لها القلوب.
بعد ما يزيد عن نصف قرن خرجت علينا محكمة تنتصر للديمقراطية وتنتصر للقضاة الشرفاء وتنتصر للشعوب التي أنهكتها القوانين الرجعية والاستبدادية يرأسها رجل عرف معنى العدالة ومعنى القانون لم تغريه كل المغريات التي رماها الطغاة في دربه ليصدر حكماً قاسياً من دون إثباتات مادية وشهادات حقيقية غير ملفقة من أفواه مأجورة أو مرتزقة حتى في حق أعتى أعداء الإنسانية وأكثرها إجراماً «طاغية العراق» بلا منازع؛ كما أن القاضي الحق هذا لم ينجرف قيد أنملة نحو رغبات الدهماء في القضاء على هذا الطاغية بإصدار حكم بشنقه حتى الموت وإن هو ذاته رغب في إعدام بالرصاص حتى الموت. كما ان هذا القاضي لم ترعبه للحظة تهديدات المنبعثين من رماد النيران التي تركوها وفروا عنها هرباً خوفاً من أن تحرقهم كما أحرقت الأبرياء من ضحاياهم.
يكتب أحد العراقيين المهجرين نتيجة العسف والقمع بعد مشاهدة محاكم هذا القاضي: «القاضي العراقي اليوم في العراق الجديد قلب كل تلك الموازين والصور النمطية السائدة كي يوضح للناس بأننا على أعتاب بناء دولة الحق والقانون وان دولة العراق في المستقبل سيكون الحكم فيها للقانون وليس لأهواء البعض وقرارات اعتباطية تصدرها محاكم حزبية إن وجدت. عراق جديد بنظام ديمقراطي تعددي يحترم أبناء الشعب ويعتبر الجميع سواسية أمام القانون والمتهم بريء حتى تتم إدانته حتى لو كان الشارع والرأي الشعبي العام قد أصدر حكمه النهائي به».
لقد استقال هذا القاضي التاريخي من منصبه واستقالته هذه وإن لم نعرف بعد تفاصيلها شهادة على حرية الاختيار وشهادة عظيمة على أن «العراق» بعد «الطاغية» قد تخطى عتبة الحرية الأولى في طريقه قمة ربوعها، ما قد دفع الكثيرين من طرح السؤال التالي: «هل أصبح العراق حراً؟»
نقول نعم بملء الفم، وغداً البرهان العظيم.
«خف الضعيف إذا كان تحت راية الإنصاف، أكثر من خوفك القوي تحت راية الجور، فإن النصر يأتيه من حيث لا يشعر، وجرحه لا يندمل». الإمام علي بن أبي طالب.
العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ