العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ

تقدم أوروبا العالمي والاتجاه نحو اكتشاف القومية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قطعت أوروبا في تطورها العمراني / المعرفي الأشواط الكثيرة حتى تصل إلى فلسفة روسو والثورة الفرنسية. فالقارة اجتازت الكثير من العقبات في القرن السابع عشر وشهدت طفرة نوعية في تقدمها الاجتماعي على مستوى سيطرة الدولة على علاقات السوق الداخلية. كذلك اسهم الانتشار الجغرافي (التوسع الاستعماري) في رفد الدولة بالثروات (نهب خيرات الشعوب) الأمر الذي اعطاها القدرة على تطوير ادواتها الإنتاجية والعسكرية وتوفير بعض الرفاهية لسكانها.

هذا التطور/ التوسع فتح الباب أمام النخب لتلعب دورها في التفكير والابتكار. فالنخبة لم تكن «لزوم ما لا يلزم»، كما هو حال المنطقة العربية في أيامنا بل كانت حاجة تبحث عنها الدولة لتقديم الاستشارات وتحديد الأطر المناسبة لاستيعاب متطلبات التقدم.

تقدمت أوروبا كثيراً في القرن السابع عشر وكان عليها أن تدفع ثمن التطور من خلال تفاقم النزاعات السياسية الناتجة اصلاً عن التنافس على نهب المواد الخام وثروات الشعوب في دائرة ما يسمى «العالم الثالث». وبسبب ذاك التنافس اندلعت في القارة الكثير من الحروب الأهلية والقومية والسياسية في سباق محموم لأخذ زمام المبادرة والقيادة. وتحت غطاء الصراع الأوروبي - الأوروبي الذي اتخذ سلسلة ألوان دينية وقومية وسياسية اشتد التنافس على المستعمرات وكذلك ارتفعت حمى الاختراعات لتلبية حاجات الدولة ونمو متطلباتها على مختلف الأصعدة العلمية والتنظيمية والإنتاجية والعسكرية. فالحروب سارت جنباً إلى جنب مع النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي - الثقافي. والدولة التي بدأت توسع مجالها الجغرافي/ القومي داخل السوق المحلية اخذت تستكمل توسعها الخارجي من خلال تنويع مهمات تلك الشركات العاملة في اسواق افريقيا وآسيا وأميركا. وشكل هذا الحلف القومي / القاري ثنائية تاريخية أنتجت سلسلة مفاهيم قومية وقارية وأيضاً عالمية تتحدث عن الإنسان والحرية والمساواة بين البشر.

كل هذه التطورات التاريخية كان لها دورها في إعادة إنتاج تصورات فلسفية/ سياسية تتناسب مع العصر الحديث وتوسعه الدولي ولا تقطع في الآن مع الموروث الديني ودور الدولة في قيادة التحولات. وهذا التقدم المركب من مجموعة عوامل اسهم في توليد ثلاثة فلاسفة في نهايات القرن السابع عشر، هم: الألماني غوتفريد فلهلم لايبنيز، جورج بركيلي، وجوزيف باتلر.

هؤلاء الثلاثة ولدوا في القرن السابع عشر ورحلوا عن الدنيا في القرن الثامن عشر. وأهمية هؤلاء كانت حاسمة في إحداث النقلة النهائية المطلوبة للوصول إلى عصر آخر ظهر في نهايات القرن الثامن عشر. فالثلاثة كانوا على علاقة بالدولة والكنيسة ولعبوا سلسلة ادوار متفاوتة في تقريب السياسة من الدين وانجاز تلك الخطوات المطلوبة لردم الهوة بين الفلسفة والمسيحية أو الحد من التعارض بين العقل والإيمان. وهؤلاء الثلاثة في النهاية هم نتاج تلك التحولات العمرانية/ المعرفية التي شهدتها القارة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولذلك اشتغلوا كثيراً على تلك الأفكار التي أنتجتها جهود هوبس وديكارت ولوك وغيرهم، وطوروها باتجاه المزيد من العالمية أو القومية.

أوروبا إذاً كانت على موعد مع هذا الثلاثي الذي أسهم في توضيح الكثير من الملابسات بين الدين والسياسة، العقل والإيمان، والدولة والحداثة وبالتالي تعريف معنى المواطن وموقعه ودوره في مجال الدين وصلته بالدولة. يعتبر لايبنيز الرجل الأهم في هذا الثلاثي. فهذا الفيلسوف الألماني الذي ولد في مدينة لايبزنغ في العام 1646 (1056هـ) يعتبر اذكى إنسان انجبته أوروبا حتى أيامنا وفق ما تذهب إليه الاستطلاعات المعاصرة. فهو عاصر الفيزيائي إسحق نيوتن ونافسه في الحقل نفسه ومتفوقاً عليه في مجموعة حقول يصعب ان تجتمع في إنسان واحد. فهذا العبقري وحَّد مجموعة اختصاصات فهو عالم رياضي وفيزيائي ومهندس ومخترع ومحام (استاذ في القانون) ودبلوماسي ورجل دولة ومؤرخ وفيلسوف. وبكل بساطة يعتبر مؤسس المنطق الرياضي الحديث ومطور علم الحسابات المعاصرة ومخترع آلة الحساب التي نستخدمها في أيامنا. وأيضاً يعتبر إلى جانب نيوتن مكتشف نظرية حساب «التفاضل والتكامل» ونظام العد الثنائي. فهذا الفيلسوف نجح في دمج علم الحساب بالقواعد المنطقية. واعاد انتاجها في نظام فلسفي جديد تحدث فيه عن المقومات النهائية للحقيقة وهي برأيه غير قابلة للتجزئة. المهم في نتاجات هذا الفيلسوف ليست اختراعاته واكتشافاته وإنما دوره الدبلوماسي واسفاره الكثيرة واتصالاته الأوروبية من بريطانيا إلى فرنسا وهولندا واجتماعه بالفيلسوف دي سبينوزا في امستردام. وكل هذه الانجازات والرحلات عززت لديه فكرة التقارب بين المواطنية والعالمية. وهذه الفكرة سيكون لها موقعها في الصراع المقبل الذي ستشهده أوروبا في القرون الثلاثة حين أخذت الدولة تصطدم مع المواطن على الواجبات والمواطن يصطدم معها على الحقوق. كذلك سيتعرف العالم من خلالها على تلك الحروب القومية للسيطرة على السوق الدولية.

حين توفي لايبنيز في العام 1716 (1128هـ) كانت أوروبا اجتازت الكثير من الخطوات المتقدمة في سياق تطورها التاريخي. كذلك ستبدأ في إعادة اكتشاف نظريات هوبس ولوك سلباً وايجاباً من خلال كتابات بركيلي وباتلر الفلسفية.

أهمية نتاجات بركيلي وباتلر تنبع من كونهما من أتباع الكنيسة (رجال دين). وبسبب هذا الموقع الديني نجحا في تأمين التغطية الشرعية المطلوبة للتعاطي مع محرمات فلسفية وتطويعها لخدمة المسيحية والدولة الجديدة ومحاولة التوفيق بينهما من خلال اعادة تعريف وظائف المؤسسات.

ولد بركيلي قبل باتلر وتوفي بعده، ويعتبر الثاني في الترتيب بعد لايبنيز، على رغم ان باتلر المعاصر له لا يقل أهمية في إحداث تلك النقلة النوعية التي احتاجت إليها اوروبا على مستوى المعرفة والمصالحة المطلوبة بين الدولة والمجتمع (المواطن) والسياسة والدين للوصول إلى درجة أرقى في تطوير الدستور وأفكار الحرية والمساواة والإخاء.

أسهم بركيلي الذي ولد في إيرلندا في العام 1685 (1096 هـ) في ربط العلوم المعاصرة بالمسيحية. وبحكم موقعه الديني (مطران) حاول إعادة قراءة التاريخ والاجتماع والأشياء الملموسة (المحسوسات) من موقع مثالي لا يتعارض مع حقائق العلم وحاجات الدولة والناس. ولهذا يعتبر بركيلي من انصار الفلسفة المثالية التي تنظر إلى الواقع كعالم من الأفكار. وبسبب نزعته المثالية وسجاله ضد لوك ودفاعه عن دور الدين في انتاج واقع مغاير، اسهم بركيلي في دفع التفكير الديني خطوات متقدمة نحو التصالح مع الفلسفة المادية والتوصل من خلالها ومعها إلى ثنائية كانت اوروبا تحتاج اليها في هذا الطور من تقدمها التاريخي.

في السياق نفسه يمكن وضع اسهامات باتلر الفلسفية. فهذا المطران الفيلسوف عمد إلى تقريب العقل من الدين انطلاقاً من مناظراته وسجالاته ضد نظريات هوبس. فهذا الفيلسوف المثالي الذي ولد في العام 1692 (1103 هـ) لعب دوراً في تطوير اسس الفلسفة المثالية وتقريب مفاهيم العقل نحو الدين المسيحي من خلال اطروحاته التي نشرها على دفعات في 1726 (1138 هـ) و1736 (1149هـ). ففي هذه الاطروحات تشجع باتلر، بحكم حصانته الدينية وإيمانه بالمسيحية ودورها في صنع مستقبل الانسان الاوروبي، على التطرق إلى موضوعات محرمة مثل التحدث عن طبيعة الصانع وبداياته. وكل هذا التقدم المعرفي الذي اندفع إليه باتلر كان استجابة لحاجات السوق وتحديات التطور العمراني. فهذا التطور فرض البحث عن ادوات تحليل منهجية للتوفيق بين الدين والسياسة والمصالحة بين الدولة والمجتمع.

توفي باتلر في العام 1752 (1165هـ) وقبل سنة من رحيل بركيلي. وتعتبر اعمالهما إلى جانب مكتشفات وانجازات واختراعات الفيلسوف الألماني لايبنيز بدايات معاصرة لتلمس خطوط التقدم العام الذي حققته اوروبا وتعيين حدود المصالحة بين الدولة والمجتمع (المواطن المسيحي).

مقابل هذا التطور المتوازي الذي شهدته اوروبا بين العمران والمعرفة واصل العالم الاسلامي (العربي) انكماشه في وقت اخذت دول القارة الجديدة تقتحم الاطراف العربية للضغط على المركز (السلطنة العثمانية). ففي هذه الفترة شهدت المنطقة تراجعات على مختلف المستويات اذ تفشت فيها الخرافات وانتشرت الانقسامات. وزاد هذا الأمر من ضعف الدولة والدين وابتعادهما معاً عن تلك المصالحة التاريخية (العقد الاجتماعي) بينهما. وبسبب اتساع رقعة الانفصال التاريخي بين القوتين تقلص الزخم العمراني والمعرفي في العالم الإسلامي وانعكس الأمر سلباً على الجبهات العسكرية وخطوط التماس الحضارية مع اوروبا. ففي شرق القارة اضطرت اسطنبول الى توقيع معاهدة كارلوفيتز في العام 1699 (1111 هـ) التي قضت بانسحابها من وسط اوروبا (المجر، كرواتيا، واجزاء من أوكرانيا وترانسلفانيا). وبعدها بدأت الاجتياحات تتواصل. فمن جهة الغرب أقدمت بريطانيا (الدولة البحرية الأولى في العالم آنذاك) على احتلال مضيق جبل طارق (ولاتزال) في العام 1704 (1116 هـ) في اطار خطة بسط سيطرتها على خطوط المواصلات الدولية البحرية (السويس وعدن). ومن جهة الشرق الآسيوي اندفعت روسيا القيصرية واقتحمت محيط بحر قزوين مستفيدة من الخلاف الصفوي - العثماني واستولت على مجمل الأراضي في الشاطئ الشمالي للبحر في العام 1724 (1136 هـ). وفي العراق بدأت شركة الهند الشرقية تمد نفوذها إلى البصرة بعد ان استكملت سيطرتها على خطوط البحار في البنغال والهند ومنطقة الخليج. فهذه الشركة كانت غطاء تجارياً للنفوذ البريطاني السياسي والعسكري وهي مهدت الطريق للسيطرة المباشرة كما حصل في منطقة البصرة في العام 1764 (1177 هـ).

هذا الصعود والهبوط بين عالم يتطور وآخر يتأخر عن اللحاق بسبل التقدم، أنتج سلسلة انهيارات في العالم الاسلامي مقابل مواصلة زحف اوروبا باتجاه تحقيق تلك النقلة النوعية التي تمثلت في جانب منها في فلسفة هيوم والثورة الأميركية وفي جانب آخر في فلسفة روسو والثورة الفرنسية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً