شهدت السنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة العام 2000 - 2005 واحدة من أعنف موجات انتهاك حرية الصحافة والرأي والتعبير، ليس في منطقتنا فقط، ولكن في العالم أجمع، بما فيه الدول الديمقراطية.
ولم يأت ذلك بالمصادفة التاريخية، ولكنه جاء نابعاً من طبيعة التطورات التي أطاحت بالعالم القديم وأفكاره وقيمه، وقدمت للإنسانية صورة جديدة من صور التغير وربما حتى الانقلاب على أسس كانت راسخة حتى الأمس القريب.
وإذا كانت النظم الديكاتورية والحكومات الاستبدادية، قد غالت كثيرا، في ممارسات قمع حرية الصحافة، خدمة لمصالحها ورعاية لأهدافها واتساقاً مع طبيعتها، فإن الغريب حقاً أن تنتكس النظم الديمقراطية في الغرب خصوصاً عن قيمها الليبرالية، وتسير في حالات كثيرة على خطى النظم الاستبدادية نفسها في العالم الثالث، وتفرض قيوداً على حرية الصحافة والرأي والتعبير هي الأشد من نوعها.
وصولا إلى ارتكاب جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد للصحافيين والإعلاميين، فاتحة الباب أمام غيرها سواء من النظم المعادية للحرية، أو أمام الجماعات المنفلتة والتنظيمات الإرهابية والمتشددة لتقليدها واتباع منهجها الغريب!
وها نحن نتابع بأسى انتشار حالات الانتهاك السافر، تمتد وتتوسع بامتداد الساحة العربية، من موريتانيا والمغرب غرباً حتى العراق شرقاً، وهي حالات تتعدد فيها صور الانتهاك وأشكاله، ابتداء من الاعتداء المباشر والضرب في الشارع والايذاء البدني والنفسي للصحافيين، وانتهاء بالقتل والاغتيال، مروراً بعقوبات الحبس في قضايا النشر فضلا عن الاعتقال والإخفاء القسري.
ومن أسف أنه لا يكاد دولة عربية واحدة، تخلو من واحدة من هذه الانتهاكات أو أكثر، بما في ذلك دول الهامش الديمقراطي، وخذ عندك مثلا، لبنان إذ اغتيل فيها الكاتب سمير قصير والكاتب جبران تويني، وجرت محاولة اغتيال المذيعة مي الشدياق أسفرت عن بتر ساقها وذراعها، ومصر التي اختفى من قلب عاصمتها المزدحمة الزميل رضا خلال منذ العام 2003 من دون أن يظهر له أثر، فضلا عن الاعتداء اللاأخلاقي على صحافيين وصحافيات أمام نقابة الصحافيين، سبقه الاعتداء بالضرب العنيف على جمال بدوي ومجدي أحمد حسين وحمدين صباحي وعبدالحليم قنديل وغيرهم.
وفي ليبيا تم خطف وتعذيب ثم قتل الكاتب ضيف الغزال في ظروف غامضة ومريبة، وفي اليمن تعددت عمليات الخطف والاعتداءات المسلحة على صحافيين ودور صحف مختلفة، أما الجزائر فقد سبقت هؤلاء وأولئك، حين استباحت فورة الاضطراب السياسي الأمني الناتجة عن الصدام بين الدولة والجيش وبين الجماعات الإسلامية عموماً، وراح ضحيتها أكثر من 60 صحافياً ومثقفاً.
غير أننا نتوقف أمام وضعين استثنائيين يشكلان الخطورة الأعلى والأعنف على حياة الصحافيين باستهدافهم مباشرة، ونعني أولا الوضع العراقي، إذ قتل أكثر من 79 صحافياً وإعلامياً ومساعداً على مدى العامين ونصف العام، منذ بدء الغزو الأميركي للعراق في مارس / اذار 2003 حتى نهاية ،2005 وقد قتل معظمهم بطريقة متعمدة ومقصودة سواء على أيدي قوات الاحتلال، أو قوات الحكومة أو الميليشيات والجماعات المسلحة المتنافرة.
أما الوضع الثاني، فهو الوضع الفلسطيني، إذ مارست قوات الاحتلال الصهيوني سياسة تعمد قتل وإصابة الصحافيين مع سبق الإصرار، ولذلك قتل 15 صحافياً وجرح أكثر من 185 آخرين، خلال السنوات الخمس المذكورة أي منذ بدء الانتفاضة في العام 2000 حتى منتصف العام .2005
وفي الوضعين العراقي والفلسطيني، نلاحظ أولاً أن المتسبب الرئيسي في قتل وإصابة الصحافيين، هما الولايات المتحدة الأميركية التي تحتل العراق، و«إسرائيل» التي تحتل فلسطين، وتزعم كل منهما أنها دولة ديمقراطية عتيدة، ونلاحظ ثانياً أن القتل تم بطريقة متعمدة بهدف إرهاب وترويع الصحافيين، ومنعهم من نقل الحقيقة إلى الرأي العام، ما يعني مصادرة وانتهاك حرية الصحافة.
ونلاحظ ثالثاً أن سياسة القتل المتعمد هذه لم تفرق كثيراً بين صحافي عربي وآخر أجنبي، إنما هي طالت الجمع تحقيقاً للهدف في منع وحجب المعلومات، إلا ما تسمح به سلطات الاحتلال، اتساقاً مع سياستها في تضليل الرأي العام، ونلاحظ رابعا أن عدد من قتل من الصحافيين في العراق على مدى العامين ونصف العام فقط، يفوق عدد من قتل منهم في صراع وحرب فيتنام التي امتدت لعقدين من الزمان، ثم نلاحظ خامساً أن تصاعد هذه الوحشية ضد الصحافيين وضد حرية الصحافة، يتم في عصر الحرية وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، التي كسرت القيود وعبرت الحدود!
وإن دل ذلك كله على شيء، فإنما يدل على التناقض الفج بين ما يشاع في عالم اليوم عن تعميق جذور الديمقراطية وإطلاق الحريات، وخصوصاً حرية الصحافة، وتقديس حقوق الإنسان وخصوصاً حقه في المعرفة والمعلومات المنسابة بشفافية وحرية، الأمر الذي تدعيه الديمقراطية الغربية وتروج له، وبين ما تمارسه هذه الديمقراطيات على أرض الواقع، حين يتعلق الأمر بمصالحها المباشرة.
وها هي تشارك الدول الاستبدادية والنظم الدكتاتورية، في ممارسة الأسلوب نفسه، أسلوب الانتهاك وصولا للقتل العمد، ومن دون خجل أو حياء... الأمر الذي يؤدي إلى ثلاث نتائج صريحة ناتجة عن انتهاك الحرية.
- انتهاك حرية الصحافة والرأي والتعبير، التي تعتبر المقدمة الحقيقة لكل الحريات العامة في المجتمع، أي مجتمع، والقاطرة لقيادة التغيير السياسي والإصلاح الديمقراطي.
- انتهاك حق المجتمع في المعرفة الشاملة وفي تدفق المعلومات الصادقة وانسيابها من مصادرها الرئيسية من دون قيود.
- انتهاك الحق في الحياة، حين تمارس جريمة قتل الصحافيين أو خطفهم وإخفائهم قسريا.
وهذه الحقوق ثلاثية الأضلاع، تمثل عصب الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي تفاخر دول العالم بأنظمتها الديمقراطية والدكتاتورية على السواء، بأنها تحترمها إلى درجة التقديس.
وبالتالي فإن إهدار هذه الحقوق وانتهاكها بهذه الوتيرة المتصاعدة، تتطلب سرعة مواجهتها بقوة، حفاظا على القيم الديمقراطية في الأساس، وتستدعي من ثم محاكمتها دولياً باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، حتى لو تخفت وراء أقوى قوة دولية في العالم المعاصر، طالما أرقت مضاجعنا بدعوات التبشير بالديمقراطية، وتحريرنا من قبضة الفساد والاستبداد، ومحاربة الإرهاب وفق وحي إلهي أفصح عنه الرئيس بوش علانية.
وبصرف النظر عن تناقض القول مع الفعل في السياسة الأميركية خصوصاً في هذا الشأن، كما هو الحال في شئون أخرى كثيرة، فإن ارتكاب الولايات المتحدة، قلعة الديمقراطية الغربية، وداعية حقوق الإنسان وراعية التبشير بإصلاح حال المستبدين الفاسدين، يمثل جريمة مضاعفة، تستحق عقوبة مضاعفة، بحكم ما يقع عليها من مسئوليات.
فإن فهمنا أن النظم المستبدة تسعى دوما لتغطية استبدادها وحماية فسادها، وحصانة رؤوسها، عن طريق إهدار الحريات وتقييد حرية الصحافة والرأي والتعبير خصوصاً، كما هو الحال في عالمنا غير السعيد، فما هو مبرر أميركا لارتكاب هذه الجريمة، التي تفوقت في أساليبها وصولا لتعمد قتل الصحافيين في العراق مثلا!
المبرر واضح وضوح الهدف، وهو حرمان الرأي العام الأميركي أولاً، والعربي والدولي من بعد، من الاطلاع على حقيقة ما يجري في العراق من قتل ودمار، وإخفاء المعلومات الحقيقية التي هي أساس تشكيل الوعي والموقف، والانفراد فقط بما تسمح به القيادة العسكرية في الميدان وغالبه قاصر ومبتور، أو مشوش ومضلل، مقابل إطلاق أوسع وأقوى حملات الدعاية من الإنجاز الأميركي في العراق، بإزاحة نظام دكتاتوري، وهذا واقع فعلاً، وبإقامة نظام حديث وديمقراطي مستقر وهذا غير صادق على الإطلاق.
من فرجة صغيرة بل من ثقب أبرة رفيعة، لحسن الحظ تتسلل بعض المعلومات من بين براثن الحصار العسكري الأميركي، عبر صحافة حرة وصحافيين فدائيين فعلاً، لتكشف الحقائق وتنير الرأي العام، على رغم القتل المتعمد والإبعاد القسري لهم عن ميدان القتال وساحات العمل أو كواليس السياسة.
وخذ عندك نموذج تسريب صور وحكايات فضائح تعذيب السجناء والمعتقلين العراقيين في سجن «أبوغريب» وغيره، تلك أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد، وضربت صدقية الرئيس الأميركي بوش وقادته العسكريين ومنظريه السياسيين من جماعة الصقور والمحافظين الجدد، في الصميم... وبقدر ما انكرت القيادة الأميركية في البداية مثل هذه الفضائح، الجرائم، بقدر ما عادت واعترفت بارتكابها تحت تأثير نشر الأدلة والبراهين الواضحة.
وفي الحالين، تعمد قتل الصحافيين، والتعذيب الوحشي للسجناء والمعتقلين في السجون الأميركية في العراق، فإن التكييف القانوني، فضلا عن الإنساني والأخلاقي، يضعهما معا ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي تستدعي محاكمة دولية لمجرمي الحرب، حتى لا تظل الدوامة مستمرة إلى ما لا نهاية.
خير الكلام: يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1251 - الثلثاء 07 فبراير 2006م الموافق 08 محرم 1427هـ