تتداول الأوساط الصحافية الأميركية ان الرئيس الحالي جورج بوش عقد لقاء مع دونالد رامسفيلد بعد ان رشح الأخير لشغل منصب وزير الدفاع، وذلك قبل أيام قليلة من بداية ولاية بوش. قال رامسفيلد للرئيس المقبل خلال اللقاء إن الولايات المتحدة عاشت حقبة مهينة في التسعينات، فقدت خلالها دورها القيادي وتقاذفها الخصوم والأصدقاء. وحذر رامسفيلد بوش من انه ستأتي مناسبات سيكون عليه فيها ان يتخذ قرارات صعبة، وانه - أي رامسفيلد - عندها سيذكره بهذا اللقاء. جوهر تقدير رامسفيلد للوضع الأميركي خلال العقد التالي لانهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية «الحرب الباردة» ان الولايات المتحدة فشلت في ان تحقق هدف قيادة العالم، وهو الهدف الذي بدا سهل المنال بل وطبيعيا بعد ان خرجت من أطول حروب التاريخ الحديث باعتبارها الطرف المنتصر.
إن قوة أميركا التسعينات العسكرية بالمقارنة بباقي دول العالم، خصوصا منافسيها المحتملين في الشرق والغرب هي قوة غير مسبوقة. فالإنفاق العسكري الأميركي يزيد عن إنفاق العشرين دولة التالية مجتمعة (بما في ذلك الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا)، وما تنفقه الولايات المتحدة على البحث العلمي، القاعدة الأساسية للتفوق العسكري، يعادل الإنفاق العالمي كله. والولايات المتحدة هي فوق ذلك أكبر قوة اقتصادية في العالم، على رغم ان نصيبها في التجارة الدولية قد تراجع بشكل ملموس عما كان عليه في الخمسينات والستينات. شهد تاريخ العالم منافسات شهيرة بين القوى المسيطرة، كالتدافع بين الامبراطوريتين الإسلامية والرومانية، بين الدولة العثمانية وروسيا، ثم بين الدولة العثمانية والامبراطورية النمسوية، وبين بريطانيا واسبانيا ثم بريطانيا وفرنسا، وطبعا بين ألمانيا وتحالف الليبراليات الغربية. ولكن فارق القوة العسكرية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وقوى العالم الأخرى يتجاوز بمراحل فارق القوة بين أطراف أي صراع شهده التاريخ. وعلى رغم ذلك فشلت الولايات المتحدة في فرض إرادتها المطلقة على عالم التسعينات، فشلت في تحويل عالم القطب الواحد إلى عالم ينصاع إلى إرادة القطب الواحد.
فشلت الولايات المتحدة في فرض إرادتها المطلقة لأن العالم يرفض أساسا تحكم قوة واحدة في شئونه، وان لدى دول العالم وشعوبه قوى دفاع كامنة وغير إرادية ضد التحكم الفردي. وفي عالم اليوم، حيث قنوات الاتصال وانتشار المعرفة وصلت مستويات بالغة التقدم، أصبحت إمكانات تحكم قوة واحدة في شأن العالم ومصيره أكثر صعوبة من أي وقت آخر. وفشلت لأن مقياس التحكم والقيادة لم يعد ينحصر بالأساطيل والقاذفات والصواريخ بعيدة المدى، بل في صدقية السياسة وجدوى الرسالة والتزام القيم المشتركة بين شعوب العالم. لقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة مسلحة بأيديولوجية الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها في الآن نفسه استمرت في حصارها غير المبرر لكوبا، واحتلالها أجزاء من الجزيرة العربية، وتنكرها للحق الفلسطيني. بل ان واشنطن التي تسلمت من أوروبا قياد اتفاق أوسلو منذ توقيعه في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر/ أيلول 1993، جعلت من نهج أوسلو طريقا باتجاه واحد، اتجاه التنازلات الفلسطينية لاحتلال إسرائيلي غير شرعي. ما ان اختتم كلنتون ولايته في نهاية التسعينات حتى كانت سياسة العولمة الاقتصادية غير العادلة التي قادها واستخدم فيها مؤسسات دولية عدة، كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، إلى انهيار الاقتصاد الاندونيسي وإفقار شعب يتجاوز تعداده مجموع سكان أوروبا الغربية، وإلى تراجع فادح في اقتصاد دول شرق وجنوب شرق آسيا، إلى إفلاس كامل للأرجنتين، وسقوط متسارع في مستويات معيشة كل دول أميركا اللاتينية، حتى أصبحت مسألة الجوع أولوية أولويات الرئيس البرازيلي الجديد. المناطق الوحيدة التي نجت نسبيا من دكتاتورية العولمة كانت السوق الأميركية، وشريكتها اللدودة أوروبا الغربية، والصين التي لم تكن قد دخلت إلى منظمة التجارة العالمية بعد. حتى اليابان، عملاق الثمانينات الاقتصادي المرعب، هوت إلى مرحلة من عدم التوازن الاقتصادي لم تخرج منها حتى الآن. وما ان بدأ القرن الجديد وتولى بوش الابن الرئاسة، حتى كان التراجع الاقتصادي العالمي قد بدأ في إصابة الاقتصادين الأميركي والأوروبي.
تجلى الفشل الأميركي في التسعينات في الكثير من الأمثلة. شهد العالم أولا سلسلة من الانفجارات في منطقة البلقان لم تزل آثارها بعد، صمدت كوبا أمام استمرار الحصار الأميركي الجائر والانهيار السوفياتي، تحولت الصين، على رغم كل العقبات الأميركية، إلى قوة لا يستهان بها في الاقتصاد العالمي، واستمرت حركة التسلح الكوري بلا هوادة إلى ان أطلقت بيونغ ينغ صاروخا تجريبيا بعيد المدى فوق اليابان، مولدة القشعريرة في أوصال صانعي السياسة الأميركية. وكانت ذروة الفشل الأميركي لحظة ان ترك الجيش الإسرائيلي حلفاءه من خلفه وانسحب مهزوما من جنوب لبنان. ثم جاء عرفات ليقول لا للضغوط الهائلة التي واجهها في كامب ديفيد، وانهار بالتالي كل مشروع أوسلو، بعد ان كانت قد انهارت مشروعات التطبيع الشامل التي سبقته. وأصبح على كلنتون، الذي بدأ حكمه بتوقيع اتفاق أوسلو وإطلاق وهم تغيير وجه الشرق الأوسط إلى الأبد، ان يحاول احتواء آثار اندلاع الانتفاضة الفلسطينية.
وصلت إدارة بوش إلى البيت الأبيض موحدة حول تشخيصها لضعف الموقف الأميركي ومنقسمة الرأي حول سبل التعامل مع هذا الضعف. خلال الأشهر التسعة الأولى من ولاية بوش، ساد الرأي الداعي إلى انسحاب أميركي محدود من الشأن الدولي والتخلي عن مشروع العولمة، والدفاع عن المصالح الأميركية الاقتصادية الاستراتيجية حتى في مواجهة الإجماع العالمي، وتعزيز القدرات العسكرية الأميركية الاستراتيجية لمجابهة التحديات المحتملة للقوة الأميركية. ولكن هجمات 11 سبتمبر أعلت من نفوذ أنصار الخيار الثاني، خيار الانتشار الأميركي الامبريالي في العالم وفرض الإرادة الأميركية بالقوة المجردة ان احتاج الأمر.
ما انتهت إليه سياسة بوش الخارجية كان في الحقيقة اجتماع الجوانب الأسوأ في الخيارين. فمن ناحية، استمرت واشنطن في مرحلة ما بعد سبتمبر 2001 في الاستهتار بالإرادة الدولية فيما يتعلق بقضايا البيئة، والمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقات الحد من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، بل وحتى ما يتعلق بمسائل التجارة العالمية التي صاغت قواعدها وقوانينها الحكومة الأميركية وحلفاؤها الغربيون. وقد أبدت واشنطن استهتارا ملحوظا بالأمم المتحدة وشرعية القرار الدولي، إلى ان أجبرت اجبارا على اللجوء إلى مجلس الأمن بخصوص المسألة العراقية، بعد ان وجدت نفسها عارية وحيدة في مواجهة العالم بأسره بمن في ذلك حلفاؤها الأوروبيون. ومن ناحية أخرى، تمضي الولايات المتحدة قدما في استفزاز القوى العالمية الأخرى بتطوير حائط الصواريخ المضادة للصواريخ بعيدة المدى، وهو ما قد يؤدي إلى خلل هائل في موازين القوى ويدفع بدول نووية أخرى كروسيا والصين إلى مرحلة جديدة من سباق التسلح أو التحالف مع قوى التحدي المختلفة للسياسة الأميركية المتكاثرة في أنحاء العالم. إلى جانب ذلك، تنشر الولايات المتحدة قواتها بعشرات الألوف في أوزباكستان، وأفغانستان، والكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، وعمان، والأردن، وتركيا إضافة إلى وجودها التقليدي في بريطانيا وألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان. وتتجلى السياسة الأميركية في التخطيط للاعتداء على العراق، واحتلاله، والتحكم في مصادره النفطية الهائلة واتخاذه قاعدة لتهديد الكثير من جيرانه واحكام السيطرة الفعلية المباشرة على سوق النفط العالمية.
تحاول هذه السياسة تحقيق ما عجزت إدارة كلنتون عن تحقيقه خلال العقد الماضي. ولكن هذه السياسة تواجه فشلا محققا. رفضت شعوب العالم وترفض الاستهتار الأميركي بالشأن الدولي المشترك، ابتداء من مسائل البيئة والتجارة إلى أنماط التسلح غير الإنساني والاتقاقات الحقوقية الأممية. وشهد العامان الماضيان على رغم التعاطف الإنساني واسع النطاق مع الشعب الأميركي بعد حوادث سبتمبر 2001، أشد التظاهرات المعادية للسياسة الاميركية، تظاهرات ضمت مئات الألوف من الناس العاديين وقادة الرأي العام في مختلف العواصم الأوروبية والكثير من المدن الأميركية. حركة التظاهر هذه مستمرة وسترتفع وتيرتها بلا شك كلما ازداد النزوع الأميركي نحو استخدام أدوات الحرب والدمار. وليس هناك من شك في أن دولا عدة، لاسيما الدول الأوروبية الرئيسية إضافة إلى الصين وروسيا، ستقاوم المسعى الأميركي إلى السيطرة على منابع النفط والتحكم في سوقه. تعرف قوى العالم المختلفة أنه مهما بلغ التقدم في إيجاد بدائل للطاقة فإن النفط مازال مصدر الطاقة الأرخص وان السيطرة الأميركية على منابع النفط العربية تستهدف السيطرة على الاقتصاد العالمي والتحكم في وتيرته وإبطاء قوى المنافسة الاقتصادية المتسارعة للولايات المتحدة في أوروبا والصين. وينبغي هنا النظر إلى العراق ليس باعتبار معدلات إنتاجه النفطي الحالي بل من منظور التوقعات المتصاعدة لاحتياطه ولعمر إنتاجه النفطي الذي يتوقع له ان يتجاوز عمر الإنتاج السعودي ذاته.
وستجد الولايات المتحدة في شعوب العالم الإسلامي، لاسيما المنطقة العربية، خصما شديد المراس. فالعرب، الذين هم أقرب شعوب العالم تراثا وثقافة وجغرافية للعالم الغربي، لن يقبلوا إعادة احتلال بلادهم من قبل القوات الأميركية بعد 50 عاما من نجاحهم في دحر قوى الاستعمار الأوروبي. رجال الإدارة الأميركية من الصهاينة وحلفائهم في الدوائر الأكاديمية، الذين يوهمون رئيسهم بأن الشارع العربي والإسلامي مجرد اسطورة يخطئون خطئا بليغا. لقد تسبب الوجود الإسرائيلي في فلسطين في صراع دموي لاتزال أواره مستعرة منذ مئة عام، وفي توتر مستمر في العلاقات العربية - الإسلامية مع العالم الغربي. وأدى الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان إلى تحويل الشعب اللبناني، أكثر الشعوب العربية تغربا وحداثة، إلى أفواج من الاستشهاديين. الوجود العسكري الأميركي في السعودية هو الولد الحقيقي للقاعدة، بينما أدى الوجود الأميركي في الكويت، بشعبها الصغير وولائها غير المتحفظ لواشنطن، إلى تجسيد حال من العداء للولايات المتحدة وإلى تعزيز التعاطف الكويتي مع بن لادن ونهجه. في مناطق عربية وإسلامية سترتفع وتيرة التظاهر والتحرك الشعبي الجماعي ضد الولايات المتحدة وسياساتها، كما نرى الآن ما يحدث في باكستان واندونيسيا واليمن وتركيا، وفي مناطق أخرى سيترجم هذا الغضب في ردود فعل عنيفة ودموية كما تشهد الكثير من المدن العربية والإسلامية، سواء في علاقة مع القاعدة أو استلهام لوسائلها. ان رضخت واشنطن في النهاية للإرادة الإنسانية وقبلت بحل سلمي للمسألة العراقية فربما ستكون هذه نقطة تحول في علاقة أميركا بالعالم. أما ان اختارت الإدارة الأميركية طريق الحرب والاحتلال، فستجد نفسها سريعا أمام حال من العداء العالمي والعربي والإسلامي غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، بل وحتى مقاومة شعبية عراقية ستولد وتنمو تحت ناظري قوات الاحتلال الأميركية.
الذين يجرون الإدارة الأميركية ورئيسها إلى سياسة «امبريالية جديدة» يضعون الولايات المتحدة في موضع الصدام مع العالم بأسره، وفي صراع دموي ومباشر مع الشعوب العربية والإسلامية. هذه حال أسوأ بكثير من حال العداء التي واجهتها الولايات المتحدة في ذروة الحرب الفيتنامية. ففي نهاية الستينات ومطلع السبعينات كانت واشنطن تقود معسكرا غربيا واسعا ومتعدد القوى. اليوم، تعيش الدول الغربية جميعا توجسا لا يخفى من حليف الأمس وسياساته. وليس هناك قوة في التاريخ، ليس هناك قوة على الاطلاق، تعادي العالم أجمع وتنتصر
العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ