لقد رقى الإسلام بالعمل إلى أوج مدارجه وأسمى مراتبه، وتوجّه بعنايته للعامل قبل العمل نفسِهِ لأنّه علّة إيجاده ومبدأ انطلاقته وتجسده في خير الوجود ومظهر الحياة، وخاطب عقل ذلك العامل ومشاعره ولبّه قبل ملاحظة جوارحه وآثارها. بقدر ما كانت الدوافع متسامية ومتعالية ومنزّهة عن نوازع الأنانية وحبّ الذات والغايات الدنيئة جعل العمل مقدّساً وسامياً، ولو كانت منافعه ضئيلة ومحدودة.
ولا يقف الاسلام بالعمل إلى هذا الحد، بل يتسامى به تأسيساً على قاعدته المعنوية المثالية التي يؤكدها، ويدعو إليها، ويرتفع بغايات العمل وبواعثه الدنيوية ومن حدوده المادية الضيقة والفانية إلى عالم أرحب وحدود أوسع تمتد إلى اليوم الموعود وعالم السرمد والخلود، قال سبحانه وتعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين» (القصص: 83). وقال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا» (آل عمران: 30). وقال سبحانه: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملا» (الكهف: 7).
حضور الرقابة الإلهية
وللوقوف على حقيقة الأسس المعنوية والمرتكزات القيمية المثالية للعمل في الإسلام نستعرض لك بعضاً منها بالنحو الآتي: الأساس الأول: ضرورة استشعار حضور الرقابة الإلهية في السر والعلن والتسليم بأن الله مطلع على أعمال الإنسان خيرها وشرّها ظاهرها وباطنها علانيتها وسرّها وان جميعها يسجل ويدون في لوح محفوظ يحاسب ويجازى المرء عليها في دنياه وآخرته، قال سبحانه وتعالى: «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» (ق: 16). «إن الله كان عليكم رقيبا» (النساء: 1). «ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا» (الكهف: 49).
الارتباط بالله
الأساس الثاني: أهمية الارتباط الوثيق بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه. وقد أشار إليه الإمام الصادق (ع) فيما رواه من الحديث القدسي الذي جاء فيه: «إن الله تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس، ولأنحينّه من قربي، ولأبعدنّه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجائي منه؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بي! ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عنّي، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته عنه فلم يسألني ردّه وسأل غيري، أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أوليس الجود والكرم لي؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي؟! أوليس أنا محل الآمال؟! فلم يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟! فلو وزن أهل سماواتي وأعلى أرضي أمّلوا جميعاً ثم أعطيت كل واحدٍ منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيّمه، فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني».
حسن الظن بالله
الأساس الثالث: حسن الظن بالله تعالى في اليسر والعسر. وإليه الإشارة في جملة من الأحاديث النبوية منها ما روي عنه (ص) أنه سأل ربه سبحانه وتعالى ليلة المعراج فقال: «يا رب أي الأعمال أفضل؟»، فقال الله عز وجل: «ليس عندي شيء أفضل من التوكل عليّ والرضا بما قسمت»، ومنها قوله (ص): «طوبى لمن رزق الكفاف ثم صبر عليه»، ومنها قوله (ص): «الغنى في القلب والفقر في القلب»، وقوله (ص): «من رزق ثلاثاً نال ثلاثاً وهو الغنى الأكبر: القناعة بما أعطي واليأس مما في أيدي الناس وترك الفضول».
وعن الإمام علي (ع) أنه قال: «الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك، كفاك أكل يوم ما فيه، فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جدّه سيؤتيك في كل غدٍ جديدَ ما قسم لك، وإن تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهمّ لما ليس لك، ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك».
الأساس الرابع: الصبر والجلد على ضنك المعيشة والاحتساب بما وعد الله عز وجل به الصابرين على التزام الحق والعمل به. وإليه أشار النبي الأكرم (ص) فيما قاله في حجة الوداع بقوله: «ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس سن عملا».
صدق النية
الأساس الخامس: صدق النية وصفاء السريرة، اذ اعتمد الاسلام البواعث والدوافع وارتكز عليها كأساس معياري لتقييم أعمال الإنسان، كما في قوله عز وجل: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يواخذكم بما عقدتم الأيمان» (المائدة: 89). وعن النبي الأكرم (ص) أنه قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم»، وقال الامام الصادق (ع): «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجل، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل، ثم تلا قوله تعالى، (كلٌ يعمل على شاكلته) (الاسراء: 84)أي يعمل على نيته».
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محسن آل عصفور"العدد 1246 - الخميس 02 فبراير 2006م الموافق 03 محرم 1427هـ