قاصداً في الصباح الباكر أحد مقاهي بيروت، اتخذت زاوية لأبدأ منها الاستقصاء عن أي شيء أكتبه، تنتابني في هذه اللحظات ثقة عمياء بمهنيتي، وبقدرتي على اصطياد المواقف والزوايا الحرجة، وبيروت هذه الأيام تحديداً، هي أفضل توضيح لما تعنيه كلمة «الزوايا الحرجة»، «خائفون»، «قلقون»، «يائسون»، هذا هو الإحساس المسيطر حتى الآن، على الأقل لدى سائق تاكسي المطار، أو موظف الاستقبال في الفندق، وصولاً لبائع السجائر. إلاّ أنهم مع كل ما بهم من تشاؤم أحياء، يشعرون بالحيوية. في هذا المقهى البيروتي/ الأميركي على شارع الحمراء اللبنانيون يتأبط كل واحد منهم عوض الصحيفة الواحدة ثلاثاً أو أربع، والولايات المتحدة تعيش في لبنان أفضل حالاتها، فلا وجود هنا لأسطورة الولايات المتحدة «الشيطان الأكبر». ولابد من التنبه إلى أن ثمة فاصلاً هنا، بين بيروت الإنسان المشغول «بزحمة السياسة»، وبين بيروت الوجود والحياة التي تنبض بالنور و«الجميلات» الحالمات بالشهرة والسهرات الفنية، اللبنانية كائن «فني» في المطلق. وهي لا تهتم بالسياسة كما يهتم الرجل. بيروت لا تتغير، مدينة لا تعرف الموت، ولا تخاف صدى «سوق الاغتيالات» الذي ينافس سوق الحمراء بين جانبي تجارة وحضوراً. بيروت لا تكبر، هي الصبا حتى في أيام خوفها هذه، اللبنانيون ليسوا حادين في السياسة، وصباحاتهم تعلن بوضوح أنهم ليسوا مستاءين من «جنبلاط» وتصريحاته السياسية المربكة واللامعة، ثمة هدوء في استقبال شتى الأنباء التي تعتقد أنها أشبه بالمصيبة، وهذا ما لم أتوقعه، أو أريده، كان يجلس إلى جانبي بهجت حمادة «الدرزي» المختص بالموسيقى والإلهيات، وكان يتحاور معي في ما لا يفيد عن الثقافة والفنون، إلى أن أتى شاب «عصري الطالع» ليستأذن بمشاركتنا الطاولة، رد الدكتور بحدة لا مبرر لها البتة: «ليس لي حق في هذه البلاد، أنا مهمش، لا حق لي في شيء، خذ الطاولة... وكل ما تريد،»، سأله الشاب: «أنت من بيروت؟». قال: نعم، ابن عمي مروان حمادة، ابتسم الشاب ورد عليه «البلد بلدك... كلنا قلب واحد، فقط هي تلك المجموعة «ما بدنا نحكي عنها»، مختلفين عنا في كل شيء؟، الشاب كان متسرعاً في إجاباته مع بهجت، وسألته على حين غرة: المجموعة المختلفة هم «حزب الله»؟، أجاب: نعم. قلت له: لكنكم في لبنان لا تتفقون على تحالف معين، بالأمس كانت المقاومة موضع صناعة الأساطير وبطلة التحرير، واليوم هي منبوذة. قد تتغير الأمور غداً. كانت الحماسة اللبنانية واضحة في إجابة الشاب، إذ قال: «المشكلة أن هؤلاء لبنانيون، لا تهمنا سيطرتهم على كل شيء، ولا قوتهم العسكرية، ما عنا مشكلة، المشكلة هي التحالف مع سورية ضد لبنان واللبنانيين...». ولأن الحماسة كانت طاغية على المشهد فضلت التبسم للشاب فلم يكن كائناً سياسياً منذ البداية. غاب الجميع، ورحت أتصفح صحف بيروت الصباحية، وعناوينها المثيرة، وتقاريرها السياسية المشغولة بتطبيق قرار نزع سلاح الميليشيات، ولم تقطع علي مرحلة البحث عن السبق الصحافي «المزعوم» سوى فتاة تبشيرية بالدين المسيحي، ومثلما قطعت علي محاولاتي لاصطياد شيء ما، قررت أن اقطع معها حديثا كنت قد أجريته ثلاث مرات ماضية، وقلت لها «أحب المسيحية، وأنا متصالح معها بشكل أكثر من جيد، لكن تشغلني فكرة ما منذ أبد بعيد، هي أن الأديان جميلة في عناوينها الرئيسية، عنيفة مشوهة في عناوينها الداخلية، وحديثك هذا قد يؤثر على الصورة الإيجابية في ذهني عن المسيحية؟ ردت علي بابتسامة بيروتية هادئة، صباحك جميل... في بيروت،»، رددت لها التحية: «صباحك سكر».
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1242 - الأحد 29 يناير 2006م الموافق 29 ذي الحجة 1426هـ