لعلك تتفق معي أن العمل على تحسين الأوضاع في مختلف مناطق وقرى مملكتنا العزيزة يتطلب الكثير من الجهد والوقت والمال والتخطيط السليم، وقبل كل ذلك يتطلب النظر إليه بعين بصيرة وقلب حنون من قبل حكومتنا الموقرة، ذلك لكونها تفتقر إلى الكثير من مقومات المناطق الحديثة جرّاء ما تعرضت له من إهمال وسوء تخطيط وتنظيم طيلة عقود، حتى بات الشعور الذي ينتاب الكثير من المواطنين اليوم وهم يشهدون ضياع الساحات الخضراء، وقضم السواحل البحرية الجميلة، واندثار العيون العذبة، وجرف البساتين الغناء. .. شعوراً يعتصره الألم إلى الدرجة التي لا يتوانون عن تحميل الدولة المسئولية عن ضياع كل تلك الأجواء الجميلة التي تشيع في النفس البهجة والهناء. والمواطنون حين يحملون الدولة المسئولية، فإنهم لم يأتوا بذلك من فراغ، فالدولة نفسها اختارت لنفسها أن تكون في هذا الموضع حينما اختارت بإرادتها أن تكون بديلاً عن المجالس البلدية المنتخبة فترة تزيد على الثلاثة عقود، حتى أصبحت صاحبة القرار الأول والأخير في سن القوانين والتشريعات، وصاحبة الطاقات والموارد المالية والبشرية، وأن بلدياتها في مختلف المناطق تابعة لها وتحت سيطرتها وإدارتها المباشرة. من هنا تولد هذا الشعور في تحميل الدولة المسئولية كاملة. ولكن وأمام ضياع كل ذلك، وأمام التلكؤ والتباطؤ الذي نشهده في تطوير مناطقنا، بل وأحيانا أمام ما نشهده من هضم وقضم لما تبقى من سواحلنا ان كانت ثمة سواحل باقية ماذا علينا أن نفعل؟ هل سنبقى نذرف الدموع ونحلم بالماضي الجميل؟ لا يجدر بنا كمجتمع ناهض أن نعفي أنفسنا من المسئولية في النهوض بمناطقنا وتطوير مرافقها، فالعقل والواجب يدعواننا لأن ننهض بمناطقنا وشبابنا، وهنا يكمن الفرق بين المجتمع الحي والمسئول، وبين المجتمع الخامل البليد. الفرق بين المجتمع الذي يعيش ثقافة الاعتماد على النفس وبناء الذات، وبين الآخر الذي وضع نفسه تحت رحمة الآخرين. إن المشاركة في بناء المناطق من قبل المجتمع نفسه يجعلها أكثر جمالاً وحيوية، بل وسيظل المجتمع أكثر حرصاً في رعاية ما بنته يداه، على العكس تماماً من الآخر الذي يدير ظهره لكل شيء ويتنصل من كل مسئولية. فمجتمع كهذا لن يعبأ أبداً بما يحل بالبلد من خراب أو دمار أو ضياع. من هنا تأتي الفكرة إلى «فدرلة» المناطق، ليس على سبيل انفصالها وتقسيمها إلى مناطق إدارية كما يعتقد البعض، وإنما على سبيل أن ينهض مجتمع كل منطقة من المناطق بمسئوليته تجاه رعاية شئونها الجمالية والروحية والاجتماعية والترفيهية والتعليمية وإلى ما هنالك من أمور، وفي حدود الطاقات والإمكانات المتاحة. وهنا يقول قائل: «إنكم بذلك تعفون الدولة من القيام بواجبها والتزاماتها وتجعلونها تتنصل من كل شيء. إن مثل هذا القول ليس صحيحاً، ولا نتصور أن المسئولين سيتخذون من ذلك ذريعة يتنصلون من خلالها عن مهماتهم وواجباتهم، وأن الدولة ستبقى المسئول الأول عن توفير وتطوير جميع المرافق والخدمات. وسنبقى نحن نكافح في سبيل أن تنهض الدولة بواجبها كما ينبغي، ولكن في الطرف المقابل علينا ألا نتردد أبدا عن القيام بواجبنا، وألا نتذرع بمختلف العلل والوسائل لنخلي مسئوليتنا كمجتمع من القيام بدورنا. وحسبنا أن نعرف أن مؤسسات المجتمع المدني في الدول الغربية تفوق بكثير المؤسسات الحكومية، وأن دورها لا يقل أهمية عن دور الحكومات، هذا مع إيماننا بالفارق الكبير بين حكوماتنا وبين حكومات الدول المتطورة. ما أود بيانه هو أننا ببساطة كمجتمع نستطيع لو امتلكنا الحس والإرادة والفاعلية والنشاط أن نوفر الكثير مما نفتقر إليه، وباستطاعتنا أن نحول مناطقنا إلى واحات جميلة ومراكز جذب يتنفس منها المرء عبق الماضي ونسيم الأمل ليبعد عما علق به من كدر جراء ضياع الكثير من البساتين والعيون والسواحل. تلك التي كانت متنفساً فأصبحت تاريخاً وقصص خيال نحكيها لأبنائنا قبل نومهم، ونذرف دموعنا عليها صباح مساء. إن الرهان على الحكومة في تطوير المناطق بالصورة التي نطمح إليها رهان خاسر على الأقل على المدى القريب فتجربة المجالس البلدية ماثلة أمامنا، علماً بأننا لا نقلل أبداً من شأن هذه المجالس بقدر ما نقول انها تجربة وليدة لايزال أمامها الكثير من الوقت لتنمو وتتطور وتزدهر، وأنها بداية تحوّل على الطريق الصحيح، تستغرق وقتاً كي تزاح عنها جميع العقبات والعراقيل التي تحد من نشاطها وفاعليتها لتصل إلى المستوى الذي ننشده. ولكن حتى تصل إلى ذلك المستوى، ليس علينا أن نظل منشغلين بالتأوه والحسرة والتذمر والشكوى. ونحن نجد كل ما حولنا يتهاوى ويتراجع فهناك الكثير من حالات التردي والتصدع والكبت واليأس والاكتئاب، وغير ذلك من الأمراض التي باتت تنخر في جسد مجتمعنا. إن في كل مدينة من مدننا وقرية من قرانا طاقات شبابية واعية وواعدة، مستعدة لأن تؤدي الدور المناط بها على أتم وجه، كما أن هناك من الأكاديميين الأكفاء القادرين على التنظير والتخطيط والمساعدة، وهناك الميسورون الكرماء، أفراداً ومؤسسات، لن يألوا جهدا في مد يد العون والمساعدة. ولا ينقص كل ذلك غير أن يوجد الحس والشعور بالمسئولية وروح المبادرة وتضافر الجهود، وحتى لا يأتي اليوم الذي نشكو فيه من ضياع شبابنا وحرمان أطفالنا وزوال ما تبقى من حلم جميل نتغنى به. علينا أن نسعى جاهدين كمجتمعات في مناطق متفرقة يربطها وطن واحد لبناء هذه المناطق، فالنبتة التي ستغرسها أيدينا سنظل نرعاها بكل إخلاص وستبقى الأجمل دائماً في عيوننا. * ناشط سياسي
العدد 1232 - الخميس 19 يناير 2006م الموافق 19 ذي الحجة 1426هـ