هذا فعلاً سؤال صعب، بل هو السؤال المجنون في نظر كثيرين، وخصوصاً في هذه الأيام، التي تتكثف فيها الجهود الدولية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لتقييد انتشار الأسلحة النووية، وحصار الدول التي يسمونها «مارقة» داخل محور الشر، مثل إيران، كوريا الشمالية وسورية، باعتبارها خطراً على السلام والأمن الدولي،. لكن السؤال الصعب «لماذا لا نتملك نحن أيضاً السلاح النووي» لحماية أمننا وسط غابة من الترسانات النووية ولردع القوى المعادية التي تمتلك هذا السلاح من دون أن يردعها الضغط الدولي، يظل سؤالاً قائماً، وتظل إجابته مفتوحة على كل الاحتمالات لأنه يظل سؤال الضرورة. فمبررات امتلاكنا وضرورات الحصول على الرادع النووي قائمة واضحة لمعادلة موازين القوى المختلفة، ولردع المخاطر النووية الرابضة على حدودنا، والقريبة من مدننا وأهدافنا الحيوية التي صارت أسيرة لهذه المخاطر من دون حماية حقيقة إن وقعت الواقعة لأي سبب وفي أي وقت،. أما امكانات الحصول على الرادع النووي فهي متاحة وكثيرة إن توافرت الظروف وفي مقدمتها القرار السياسي الأعلى وهو قرار استراتيجي من الدرجة الأولى، تحكمه اعتبارات داخلية ودولية كثيرة، ولقد سبق لعدد من الدول العربية اتخاذ هذا القرار والمضي قدماً في تنفيذه لكن التوقف أو الفشل أو التسليم كان مصيره لأسباب باتت معروفة وفي مقدمتها الضغوط الأميركية الإسرائيلية الهائلة،. وقد بدأت مصر على سبيل المثال مشروعها النووي في نهاية الخمسينات بعد أعوام قليلة من المشروع الاسرائيلي المدعوم أوروبياً وأميركياً (مفاعل ديمونة) بل وقبل المشروع النووي الهندي والمشروع الباكستاني وطبعاً قبل أن يظهر للوجود المشروع الإيراني المثير للجدل هذه الأيام. وعلى رغم التقدم الكبير الذي أحرزه المشروع المصري في سنواته الأولى، بفضل توافر البنية الأساسية وخصوصاً الامكانات العلمية والعدد الوفير من الخبراء والعلماء فضلاً عن المساعدة الأجنبية آنذاك، وعلى رغم محدوديتها فإن هزيمة 1967 وحرب الاستنزاف وانفجار الصراع السياسي مع الدول الغربية أدى إلى تباطؤ كبير في تقدم المشروع المصري، ثم تراجع كثيراً بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر وتقلب التوجهات السياسية وتغير اتجاهاتها في عصر الرئيس أنور السادات وحرب أكتوبر/ تشرين الثاني 1972 المجيدة، وما أعقبها من الدخول في عملية التفاوض السياسي مع «إسرائيل» والدور الأميركي النشيط في إعادة تأهيل المنطقة، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إغلاق الملف النووي المصري مع نهاية السبعينات ولايزال،. وقد التقط كل من العراق وليبيا الخيط فيما بعد، وبدأت كل من الدولتين جهوداً حثيثة لبناء مشروع نووي. مستعينة بخبرات علمية مصرية وعربية ودولية، إلا انه اصطدم كالعادة بحائط الصد الأميركي الإسرائيلي، فتم قصف المفاعل العراقي الوليد العام ،1981 ثم فرض الحصار على العراق بسبب الاندفاع الطائش للسياسة الصدامية، وصولاً لإجهاض اي امكان للتقدم على المسار النووي وكل أسلحة الدمار الشامل كما هو معروف، أما ليبيا فقد سلمت الجمل بما حمل، و«بحريتها» الكاملة تخلت عن حلمها الذي أنفقت عليه كثيراً، وقدمت للولايات المتحدة كل ما لديها من أجهزة ومواد ومعلومات، في سابقة شهيرة طمعاً في تخفيف الضغوط الدولية عليها، وكسب العطف السامي، وفي حين وافقت الدول العربية وفي مقدمتها مصر على الاتفاق الدولي لمنع الانتشار النووي العام ،1995 تحت ضغوط أميركية مشهورة، رفضت كل من الهند وباكستان الخضوع والتوقيع بحكم ما بينهما من صراع ضار، ومضتا في التقدم بانجازاتهما العلمية والعسكرية النووية إلى الأمام، بينما وافقت الإدارة الأميركية الأوروبية على استثناء «إسرائيل» من الالتزام بهذا الاتفاق الدولي، وعلى رغم كونها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك ترسانة عسكرية نووية تضم الآن أكثر من 400 رأس نووي جاهز،. وبينما كنا غارقين في هاجس السلاح النووي الإسرائيلي وخطورته العظمى علينا، إذا بالمشروع النووي الإيراني يظهر إلى العلن بعد سنوات من «الغموض النووي» الذي مارسته «إسرائيل» من قبل وإذا بالدنيا تنقلب رأساً على عقب، بحجة ان امتلاك إيران القوة النووية يمثل خطراً على أمن «إسرائيل» أولا وعلى دول الخليج العربي المجاورة بكل ما تملكه من المخزون النفطي والغاز ثانياً، وعلى الأمن والسلام العالمي ثالثا. وفي حين تركزت الجهود الدولية بقيادة أميركا لمحاصرة المشروع الإيراني قبل ان يكتمل بما في ذلك احالته إلى مجلس الأمن لتوقيع عقوبات قاسية على إيران، فإن العرب الذين اصبحوا محاصرين بين نارين، انقسموا كالعادة إلى قسمين، أحدهما يتحمس لامتلاك إيران السلاح النووي لردع ««إسرائيل» ومواجهة الغطرسة الأميركية الاستعمارية الهاجمة باعتبار أن السلاح النووي الإيراني هو «سلاح إسلامي» في الأول والأخير، وهو ما سبق ترديده عن القنبلة النووية الإسلامية الباكستانية... وينسى هؤلاء أن هناك ضوابط داخلية ودولية تتحكم في هذا السلاح، من دون النظر إلى المعايير العاطفية والدينية... واسألوا باكستان تحديداً، أما القسم الثاني وخصوصاً دول الخليج الهشة البنية البشرية والجغرافية والدفاعية، فترى أن السلاح النووي الإيراني خطر مباشر عليها قبل غيرها، وكان هذا رأيها ربما غير المعلن تجاه محاولات صدام حسين لامتلاك سلاح نووي أيضاً. الأمر الذي دفعها إلى طلب الحماية الأمنية الأجنبية التي تزاحمت أخيراً في المنطقة براً وبحراً وجواً، عبر القواعد والتسهيلات والأساطيل، وبعضها يحمل أسلحة نووية طبعاً،. فإذا ما دققنا النظر في الخريطة، وجدنا أنفسنا محاصرين بالأسلحة النووية من كل جانب، القوة النووية الإسرائيلية من ناحية، والقوة الإيرانية البازغة من ناحية أخرى، بينما القوى النووية الهندية والباكستانية تطل علينا من الشرق، في حين تطل علينا القوى النووية الأوروبية والأميركية من الشمال والمغرب، عبر قواعد ثابتة في دول مثل تركيا وقبرص، وعبر أساطيل سابحة في المياه المحيطة بنا، في الحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، والخليج العربي، حاملة محملة بالسلاح النووي «التكتيكي غالباً» فوق الأسلحة التقليدية الحديثة بينما السلاح الروسي النووي غير بعيد... فماذا بقي لنا من ثغرة في الفضاء المحيط لنتنفس عبرها، هواء الأمن والأمان والاستقرار والسلام... بينما أيدينا خالية من كل الأسلحة النووية والتقليدية، مقارنة بكل هذه الترسانات والأرمادا، الراسية الراسخة، والسابحة المتحركة، تفرض علينا حصاراً نازياً رهيباً، استشعاراً لهذه المخاطر المحدقة، طرحت مصر في التسعينات من القرن الماضي، مبادرة عالمية لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من كل أسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها النووي والكيماوي والبيولوجي، وعلى رغم علاقتها الوثيقة بالصديق الأميركي آنذاك، وعلى رغم توقيعها اتفاق منع الانتشار النووي إثباتا لحسن نيتها، فإن الصديق الأميركي عرقل المبادرة المصرية وأجهضها، في ممارسة علنية متحدية تطبيقاً لسياسته في ازدواجية المعايير، والجور حتى على الأصدقاء والحلفاء العرب، وكان الهدف الأميركي، ولايزال، هو حماية الترسانة النووية الإسرائيلية خصوصاً، واستثناؤها من الخضوع للتفتيش الدولي بواسطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن توقيع اتفاق منع الانتشار النووي، لتبقى وحدها صاحبة الذراع النووية الطويلة، والعضو الخامس في النادي النووي الدولي، بعد أميركا، بريطانيا، فرنسا والصين، القادرة على قمع العرب وفرض الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على مجمل المنطقة من دون جدال أو نزاع، غير أن «الشيطان النووي» كان كامناً على الناحية الأخرى من الخليج في غموض نووي خدع جميع أجهزة المخابرات، وربما حتى بعلمها ومساعدتها، حتى تمكنت إيران من قطع معظم الطرق الصعبة، ولم يبق الآن سوى الخطوة الأخيرة بتخصيب اليورانيوم في مراحله النهائية، بما يعني أن إيران أفلتت من الضغوط والحصار، تماماً كما سبق أن فعلت باكستان والهند، من دون معارضة خشنة أو ممانعة ناعمة من جانب الغرب، الآن تدافع أميركا عن مصالحها الاستراتيجية الرئيسية، مخازن النفط والغاز، أمن «إسرائيل»، السيطرة على نظم الحكم العربية لمتسلمة، الهيمنة المنفردة على هذا الحزام الاستراتيجي الطويل العريض الذي ترى انه بات تحت تهديد الخطر الإيراني، القادم من دولة مارقة، والواقع تحت أيدي أصوليين مسلمين متطرفين يعادون سياساتها ويهددون مصالحها ووجودها في المنطقة ويكرهون الغرب علناً، ولذلك فهي تبذل كل الجهود متضافرة مع الضغوط الأوروبية، والهواجس العربية والمخاوف الإسرائيلية والمراوغة الروسية بل الصينية، لإجهاض المشروع النووي الإيراني، إما باستمرار الحصار الدولي والجهود السياسية، وإما بالضربة العسكرية الاستباقية بيدها أو بيد «إسرائيل»... لا فرق، وفي مقابل ذلك تناور إيران حتى تنجز خطوة تخصيب اليورانيوم، مناورات متعددة الأطراف والاتجاهات، ابتداء بالخطاب المتشدد لرئيسها احمدي نجاد، ضد أميركا و«إسرائيل» والغرب عموما، وحشد الرأي العام الداخلي والإسلامي بنبرة مستثيرة، ومساندة متزايدة لكل الأطراف المعادية للغرب، من حماس والجهاد إلى سورية وحزب الله وقبل ذلك وبعده الاعتماد على تعبئة الداخل الإيراني المتميز بالقوة البشرية «نحو 70 مليونا» وبوفرة الثروات النفطية، وبالموقع الاستراتيجي الحاكم، ، وباللعب النشيط في دول الجوار، مثل العراق ودول الخليج العربي، وبالقوة العسكرية المتصاعدة، بما فيها صواريخ شهاب 3 طويلة المدى القادرة على حمل القنبلة النووية إلى آلاف الأميال... في حين وقفنا جميعاً إما نشتكي من المخاطر النووية المحيطة بنا، أو نتسلى ونتلهى برفع الشعارات اللفظية بشأن إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل... بينما الحقيقة الناصعة تقول إنه لم يعد أمامنا إلا أحد خيارين... أن تمتلك سلاحاً نووياً رادعاً لنبقى أحياء في هذه الغابة الوحشية. أو أن يتخلى كل من حولنا عن أسلحته النووية، فنتساوى
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1230 - الثلثاء 17 يناير 2006م الموافق 17 ذي الحجة 1426هـ