العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ

استعادة الثقة في عصر «ما بعد الحداثة»

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

اذهب إلى المقبرة واجمع عظاما ثم ارمها في مواد كيمياوية. بعد ذلك اذهب إلى أحد معارض الفن واطرحها كأحد إبداعات «ما بعد الحداثة». خذ قطعة ثلجية واضربها بمطرقة وضعها في فلين يخفض برودتها لمدة معينة. ثم خذ قطعة الثلج المكسورة لأحد المتاحف وقل للآخرين إن لديك إبداع «ما بعد الحداثة».

ارمِ بألوان متعددة على بساط أبيض والبس حذاء قديما، ثم ضع آثار ذلك الحذاء على القطعة الفنية، وبعدها اركض بتلك القطعة لمعرض فني وحاول بيعها باسم «ما بعد الحداثة».

إننا نعيش عصر «ما بعد الحداثة» لأن العصر الحديث انتهى. العصر الحديث توج عصور النور والنهضة والإصلاح الديني وأخرجنا من القرون المظلمة، القرون الوسطى الممتدة من 500 ـ 1500 ميلادية. العصر الحديث هو عصر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.

أما ما بعد، فإنه عصر ما بعد الحداثة، إنه عصر احتراف الفوضى للانتصار على الفوضى. إنه عصر الآنية والاستعداد بالقدرات الذاتية لمواجهة جميع احتمالات المستقبل. إذا كان العصر الحديث أعطانا التعددية في الأساليب فإن عصر ما بعد الحداثة يعطينا التعددية في الأساليب وفي الهدف. إذا كان الهدف واحدا والحق واحدا والأساليب متعددة في العصر الحديث، فإننا نعيش عصر تعدد كل شيء وتعقد كل شيء واختلاط كل شيء من أجل الوصول إلى كل شيء. وبالتالي فلا يحق لنا أن نلوم أحد فناني ما بعد الحداثة إذا عبّر عن روح عصرنا بما يراه مناسبا لإيصال الفكرة.

المفكرون الغربيون يعطون لأنفسهم الحق في وصف مختلف العصور بمختلف التسميات. فلا حرج من تسمية القرون الوسطى (500 ـ 1500م) بالعصور المظلمة. ولا حرج في إعلان العصر الحديث وثم إعلان انتهائه وبداية عصر ما بعد الحديث. وليس لديّ اعتراض على شيء مما يذكرونه أو يصفونه. غير أني أستغرب من هؤلاء المفكرين عندما ينكرون على غيرهم طرح تسمياتهم للعصور المختلفة. فهناك من يحتج على المسلمين الذين أطلقوا على عصر ما قبل الإسلام بـ «الجاهلية». فما هو الفرق في التسميتين: الجاهلية والعصور المظلمة؟ فالتسميتان تعبّران عن الفاصل الزمني الذي يميّز بين تخلُّف الأمة وتحضُّرها.

عندما يذكر الأوروبيون العصور المظلمة فإنهم لا ينكرون وجود مظاهر لتقدم معين في بلدانهم. ولكنهم يشيرون إلى انعدام قيمة العقل الإنساني وإخضاع ذلك العقل لعملية استعبادية باسم الكنيسة أو الملوك أو الاقطاع. ولهذا كانت عصور التنوير قد بدأت عندما تحررت عقول أوروبا من ذلك الاستعباد الذي يستهين بقيمة الإنسان.

وكذلك ديننا الإسلامي، الذي بُعث على يد رسول الله (ص) لتحرير عقول الناس من استعباد الآخرين وإعلان العبودية لله وحده دون غيره. ففي الوقت الذي استمرت عصور الظلام في أوروبا كانت عصور النور قد بدأت مع مطلع القرن السابع الميلادي بانتشار الدين الإسلامي الذي حرر عقل الإنسان وأرشده لحمل الأمانة، أمانة الاستخلاف على الأرض.

العصر الجاهلي الأوروبي (عصر الظلمات) انتهى بعد أن انفتح الأوروبيون على الفكر القادم من الشرق الإسلامي، وتأثروا به بصورة إيجابية. غير أن عالمنا الإسلامي صدّر العلم والعقل وبدأ عصر انحساره وربما عودته لعصور مظلمة تمنع حرية العقل والكلمة وتفرض الجهل والتخلف والتبعية والديكتاتورية. عودتنا للعصور المظلمة عودة غير حميدة لأنها حولتنا إلى غثاء كغثاء السيل.

الغرب بدوره لم يقصر في مساعدتنا على عدم الخروج من واقعنا غير اللائق بنا. فالتوسع الغربي ـ الاستعماري في بلداننا أراد تغييرا لصالحه بالأساس. والنُخب الأولى التي تأثرت بالغرب انفصلت عن جسد الأمة لتصبح جزءا لا يتجزأ من المستعمر الذي لم يوفر جهدا في تشجيع الانفصالية والتشتت داخل الأمة. وهذا بدوره خلق رفضا من الجمهور العام للنخب «المتغربة» التي جاءت بشيء فيه رائحة التنوير الفكري لكنه مملوء بالتبعية والانسحاق لكل القوالب الجاهزة القادمة من خارج الجسد الإسلامي.

لم يكن مستغربا، إذا، أن تتركز المقاومة للمستعمر في الجزء التقليدي من الأمة، وأن تنطلق المقاومات في مطلع القرن من المناطق الريفية أو القبلية.

لقد كان تشخيص جمال الدين الأفغاني دقيقا عندما قال إن الأمة الإسلامية فقدت موقعها الحضاري بسبب الاستعمار الغربي من جانب، وبسبب الديكتاتورية المحلية والجهل المنتشر في أوساط الأمة من جانب آخر.

إذا كان الفكر الغربي يمر في مرحلة ما بعد الحداثة، فإننا نمر في مرحلة استعادة الثقة بأنفسنا، مرحلة استعادة عقلنا ودحر عصور الجاهلية والظلمات. غير أننا ولكي ننجح في استعادة الثقة لا أعتقد أننا بحاجة إلى أن نجمع عظاما أو ننحت الثلج، كما أننا لسنا بحاجة إلى أن «نعيد اختراع الدراجة». ما نحن بحاجة إليه هو الانفتاح ـ من دون خوف ـ على الفكر الإنساني المطروح، لأن الإسلام كان له دوره الريادي ومازال بإمكانه أن يلعب الدور ذاته لحفظ التوازن في الطرح

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً