في الستينات من القرن الماضي وأثناء الحقبة الناصرية كانت القوى القومية هي صاحبة الغلبة الشعبية في الساحة العربية، وكان الشعار السائد: أنظمة رجعية وأنظمة تقدمية.
جاءت هزيمة يونيو/حزيران كي تحجم التجربة الناصرية لينتهي عندها شعار الأنظمة الرجعية والأنظمة التقدمية. وعقب هزيمة يونيو نما الفكر الماركسي وتبنت أطراف من الأحزاب القومية هذا الفكر، ولكن في إطار من الخلاف والتنافس بينها وبين الأحزاب الشيوعية التي كانت قائمة في المنطقة ومضى على تأسيسها وقت طويل. وكان الصراع بين هذه القوى مريراً، وانعكس سلباً على تقاربها وتفهم بعضها البعض الآخر، الأمر الذي انعكس بالسلب على أدائها في الساحة الوطنية.
الآن وقد مضى ذلك الوقت بنجاحاته وإخفاقاته، أصبحت الساحة الشعبية في مجمل الساحات العربية والإسلامية، ومنها البحرين، تحت هيمنة تيارات الإسلام السياسي بمختلف تلاوينه، حتى انتشر الفكر التكفيري بين الكثير من الشباب، الذي أصبح نموذجه أسامة بن لادن وأبومصعب الزرقاوي، يحتفلون بضحاياهم من المدنيين الأبرياء جراء عملياتهم الإرهابية متوهمين دخول الجنة!
وما حدث في الانتخابات المصرية هو دليل آخر، فكل القوى المعارضة لنظام الحكم في مصر فشلت في تحقيق أي نجاح يذكر، بعكس الإخوان المسلمين الذين حققوا نجاحات أخافت الحزب الوطني الحاكم، على رغم عدم السماح للإخوان المسلمين العمل الشرعي العلني!
ونحن على الساحة البحرينية التي هي موضوع اهتمامنا، فإن القوى التي كانت سائدة في الستينات والسبعينات ومطلع الثمانينات، انكفأت وتحجمت بفعل عوامل عدة، خارجية وداخلية، وبدت الساحة مهيأة لبروز تيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها تيار الإسلام السياسي الشيعي الذي كان الأكثر بروزاً من تيارات الإسلام السياسي السني بمختلف تلاوينه، إذ كانت هذه التيارات وقبل المشروع الإصلاحي لجلالة الملك حمد بعيدة تماماً عن الفعل السياسي، وإن كان لها ثمة فعل فقد اقتصر فعلها على مجاراة السلطة في سياساتها، والتطبيل للحق والباطل، بعيدةً عن اتخاذ أي موقف ناقد للسلطة مهما بلغ أداء السلطة من سوء. بل كانت هذه التيارات تقوم بإصدار البيانات التي تنتقد الفعل الشعبي، وتكيل المديح لتصرفات السلطة وخصوصاً في الجوانب السيئة من تلك التصرفات.
الآن وفي ظل المساحة الشاسعة التي تحتلها قوى الإسلام السياسي، نتساءل: أين هي قوى الحداثة بمختلف تلاوينها وأشكالها، ومن ضمنها ما اصطلح على تسميته بقوى التيار الوطني الديمقراطي؟ ألا تستحق هذه القوى أن تحتل المكانة التي تليق بها على الساحة؟ ألا يحق لها أن تكون لها المكانة التي تعبر عن برامجها وأهدافها ورؤيتها؟ لكن السؤال المطروح في ظل هيمنة تيارات الإسلام السياسي: هل يمكن لهذه القوى وفي ظل التشتت الذي تعيشه أن يكون لها الفعل المؤثر على الحوادث بالشكل المطلوب؟ بالتأكيد ستكون الإجابة بالنفي.
خلال السنوات الأربع الماضية طرح شعار تقارب ووحدة التيار الوطني الديمقراطي، وكان المقصود بهذا الشعار تقارب ووحدة جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي التي هي استمرار لجبهة التحرير الوطني البحرانية، وجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)، التي نرى أنها استمرار إلى حدٍ بعيد للجبهة الشعبية في البحرين، على رغم أن البعض لا يرى ذلك ولا يريد أن يكون ذلك. هذا الشعار فشل إلى حدٍ بعيدٍ، وحاول كل فريق التخندق حول ماضيه والعودة إلى قواعده السابقة بشكل أو بآخر.
الآن وبعد مضي أربع سنوات على بداية المشروع الإصلاحي، وبعد التجربة السياسية والنضالية خلال هذه الفترة، ألا يجب علينا قراءة الساحة قراءة قديمة جديدة لنرى أين نحن واقفون وإلى أين نحن ذاهبون؟ ألا يجب علينا أن نتساءل عن نوع التحالفات المطلوبة وما هي أشكالها ومن هم أطرافها؟ هل هناك من تناقض بين عمل مشترك وتحالفات قد تتم بين المنبر الديمقراطي التقدمي وجمعية وعد من جهة وتحالفات أخرى قد تكون بين المنبر الديمقراطي التقدمي وأطراف أخرى على الساحة الوطنية، أو بين جمعية وعد وأطراف سياسية أخرى على الساحة الوطنية؟ ألا توجد أطراف أخرى على الساحة يجب أن يكون هناك عمل مشترك ومواقف مشتركة معها؟ ألا توجد ملفات بدرجة وأخرى يمكن تبنيها والعمل الواسع بين مختلف الأطراف بشأنها؟ نأمل أن يكون المؤتمر الوطني المزمع انعقاده أداة حية لخلق الإجماع الوطني بشأن مختلف القضايا التي يمكن أن تكون موضع اتفاق بين أطراف هذا المؤتمر.
مع ذلك نرى أنه يجب على قوى الحداثة في المجتمع، أن تكون لها رؤيتها وبرامجها الواضحة في الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وحتى نكون أكثر وضوحاً نقول إننا نقصد من قوى الحداثة القوى التي هي خارج الإسلام السياسي. بداية نقول ليس المقصود من ذلك هو الدخول في نزاعات حادة مع قوى الإسلام السياسي، إذ إن هناك الكثير من الملفات الوطنية التي هي موضع اهتمام مشترك، لكن في المقابل نرى أن هناك الكثير من الملفات القائمة وملفات أخرى قادمة لابد أن يكون هناك تمايز واختلاف في الموقف منها بين ما نسميه بقوى الحداثة في المجتمع وقوى الإسلام السياسي، وربما قوى الإسلام غير السياسي.
في العدد رقم () الصادر في شهر مارس/ آذار من نشرة مارس التي كانت تصدرها الجبهة الشعبية في البحرين، جاء: «وللوقت الحاضر لم تتمكن الحركة الوطنية من الانتقال إلى وضعية سليمة في العلاقات بين أطرافها، بعيداً عن الموسمية والعفوية، على رغم النضج وانعدام الصراعات الطفولية التي سادت في مرحلة من المراحل».
وجاء في العدد نفسه رداً على سؤال موجه إلى الأمين العام لجبهة التحرير الوطني البحرانية المناضل سيف بن علي (أحمد الذوادي): «نسجل ارتياحنا بشأن العلاقات الثنائية بين التحرير والشعبية خلال السنوات الأخيرة، فقد شهدت تحسناً كبيراً وصار كل منهما يعتبر الآخر حليفه الطبيعي، وقامت أعمال مشتركة في العمل الجماهيري وخصوصاً في المجال العمالي والطلابي. ونحن نرى أن العلاقات فيما بين التحرير والشعبية يجب أن ترتقي إلى مستوىً أكبر وأعمق، وخصوصاً أن التنوع والاختلاف مطروح الآن بحدة في كل حزب على حدة، فكيف لا يكون في التحالفات... إلخ».
يا ترى، ألم يكن الموقف قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أكثر نضجاً بل ووطنية من قبل القائمين على الجبهتين من المواقف الحالية للجمعيتين اللتين نراهما استمراراً إلى حدٍ بعيد لتلكما الجبهتين، ونقصد بهما المنبر الديمقراطي التقدمي ووعد؟ ألا يتمنى المخلصون وهم كثرٌ أن تسود هذه العقلية وهذا التفكير أوساط هاتين الجمعيتين اللتين يجب أن تكونا محور تقارب وتحالف قوى الحداثة والتقدم في المجتمع؟
إن تقارب وتحالف قوى الحداثة يتطلبان الحد الأدنى من التوافق النسبي بشأن بعض الملفات الوطنية المهمة، وأن يكون لهذه القوى موقف معلن منها، ومن هذه الملفات على سبيل المثال لا الحصر، ضرورة القناعة بوجوب إحداث تغييرات دستورية متوافق عليها مع الحكم، تحديد موقف واضح من مسألة التجنيس وخصوصاً في الجوانب التي يمكن أن تحدث بسببها إساءات اجتماعية واقتصادية للوطن، تمهيداً للبحث المشترك فيها مع الحكم بعقلية مفتوحة والبحث عن السبل الحكيمة التي تحفظ للوطن قوته ومنعته ووحدته، وبما يحفظ للمجنسين حقوقهم وعدم الإساءة إليهم؛ ورفض أي سياسات تمييزية بين الناس سواء من قبل السلطة وأحياناً من بعض قوى المجتمع سواء طائفية أو عرقية أو إثنية؛ وزيادة مساحة الحريات ورفض سياسات الإقصاء والتكفير؛ والإقرار بوجود الكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يجب على هذه الأطراف عدم المجاملة في هذه القضايا، وتحديد موقف واضح منها، والعمل السلمي في كل المجالات ورفض ممارسة العنف من أي كان سبيلاً لتحقيق المطالب. وكما قلنا انها ملفات على سبيل المثال لا الحصر، ولكن العمل المشترك لمعالجتها واجب وممكن متى ما قبل كل منا الآخر مع وجود ما نختلف بشأنه.
والآن... ما هو المطلوب؟ ألا يجدر بنا أن نعود إلى ما قبل أكثر من خمسة عشر عاماً ونجدد الفعل والأماني والآمال؟ وكما قال رئيس جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي حسن مدن: «فمع ازدياد الغلواء الطائفية وانتعاش البرامج والأفكار المحافظة والتراجعات المختلفة التي تصادر ما تبقى من مساحة لأفكار التسامح والتنوير والحداثة وحقوق المرأة، فإن التيار الديمقراطي الموحّد الذي يمكن أن يستقطب حوله صفاً واسعاً من الشخصيات الوطنية المستقلة ومن هيئات المجتمع المدني والاتحادات الجماهيرية للنساء والشباب والنقابات العمالية والمهنية وسواها، هو الوحيد القادر على تقديم البديل الديمقراطي العصري الذي يلائم مزاج المجتمع البحريني وأفقه المتسامح».
ألا يمكن توقيع ميثاق شرف بين كل هذه القوى، تمهيداً للعمل المشترك، بما يخدم الوطن برؤية حداثية. نتمنى أن نبدأ الفعل لبناء علاقات صحية وصحيحة من دون تراخٍ، لأن الأجيال المقبلة ستقول كلمتها والتاريخ سيحكم على أفعالنا
العدد 1222 - الإثنين 09 يناير 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1426هـ