لم تغب مشكلة البطالة في البحرين من ذاكرة المسئولين منذ وضع اللبنات الأولى للدولة في مطلع سبعينات القرن الماضي، وعلى رغم توالي ثلاثة وزراء على كرسي وزارة العمل، فإن القضية أخذت منحى تصاعدياً يوماً بعد آخر، وكانت السبب في الكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عاشتها البحرين.
وتشير الدراسات العلمية الكثيرة التي أجريت أن المؤشر لن ينخفض طالما سارت الأمور على ما هي عليه. والحديث عن البطالة والطرق الناجعة لحلها يتطلب القيام برحلة تأريخية إلى عاماً خلت، لنرى كم هو كبير حجم الخطط والموازنات التي رصدت لحل هذه القضية، بدءًا من خطة «العشرة آلاف متدرب» في أواخر السبعينات، ثم البرنامج الوطني لتدريب وتأهيل العاطلين في الثمانينات، وصولاً إلى الخطة الخمسية لتوفير ألف وظيفة، ومن ثم مشروع «نافع» لتوطين البحرينيين.
تضاعفت الأرقام وتضاعفت معها الموازنات التي اختفت كثير منها من دون رقيب. ماذا لو كلفنا أنفسنا عناء مراجعة «مانشيتات» الصحف والمجلات المحلية في السنوات الأخيرة؟ سنجد أنها لم تكد تخلو من خطة عملاقة أو تصريح ناري للمسئولين يتوعد بملاحقة البطالة أو أنه يعد بمراجعة الخطط للعثور على مكامن الخلل أو كلمة السر. لكن النتيجة هي أن المواطن حفظ تلك التصريحات عن ظهر قلب!
البطالة في البحرين أضحت غولاً كبيراً يلاحق المواطنين، وتشير البحوث والدراسات التي أجريت حديثاً إلى أن البطالة في البحرين مرشحة للتزايد باستمرار، الأمر الذي يجعل ضرورة البحث عن حلول واقعية وناجعة هماً وطنياً.
ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح اليوم مع فرحتنا العارمة بإطلاق المشروع الوطني للتوظيف: هل المشروع يرتكز فعلاً إلى عناصر نجاح حقيقية؟ الدولة تؤكد ذلك، ويمكننا قراءة هذا التعهد من ديباجة المشروع الجديد ذاته، الذي أشار إلى حرص الحكومة على الالتزام بتوفير فرص العمل الكريم لمواطنيها، ومعالجة مشكلة البطالة بين المواطنين من الجنسين على المدى القريب، وإدماج جميع الباحثين عن عمل في خدمة الوطن من خلال الانخراط في سوق العمل في جميع المجالات الاقتصادية بما يحقق النمو الاقتصادي لمملكة البحرين، وتوفير فرص العيش الكريم والرفاه للمواطنين، كواحد من المشروعات الأساسية الموجهة لخدمة أبناء البحرين.
بهذه العبارات الأنيقة والمنمقة تبدأ الحملات التعريفية والترويجية للمشروع الوطني للتوظيف، وربما ان من أفضل ما يحسب لهذا المشروع الذي أطلقته الحكومة بمبادرة ملكية انه لم يأت مندرجاً تحت شعار المكرمات، وهذا يمنح المشروع صدقية كبيرة لدى الرأي العام، لأنه نجح في تحقيق الخطوة الأولى من مشوار النجاح، وهي الاعتراف بوجود مشكلة كبيرة أولاً، والإقرار بواجب الدولة بحلها ثانياً، من دون الحاجة إلى اللجوء لتعبيرات وتحويرات تغير مسمى الحقوق الطبيعية.
المشروع الوطني الذي يشرف عليه جهاز تنفيذي رفيع برئاسة وزير العمل نفسه، انطلق بقوة بعد مصادمات واحتجاجات واعتصامات تراوحت بين السلمية والمحتدمة خلال عام مضى، وبسبب التراكمات السياسية التي أنتجتها حركة العاطلين تمكن المشروع من أن يحوز على صدى معقول نسبياً في وسائل الإعلام وفي صفوف الرأي العام البحريني أيضاً، وقد لا يكون أن الصدى بالضرورة انطباع ايجابي، لكنه يعني أن صوت المشروع بات مسموعاً، وهو أمر مهم جداً.
وزير العمل كان أكثر من متفائل في جميع حواراته عن المشروع في الصحافة، وكان أكثر تفاؤلاً عند استضافته في تلفزيون البحرين قبل يومين، والحق يقال أن الوزير بذل كثيراً من الجهد والعمل من أجل الترويج لهذا لمشروع على مستويات عدة، يدرك الوزير أنها هي المؤثر الحقيقي في دفع المشروع إلى الأمام، وكان الوزير ذكياً وموفقاً في لقاءاته مع قادة الرأي من علماء وتجار وأصحاب أعمال وجمعيات سياسية وأهلية، على رغم ما يشيعه البعض من آثار هذه الخطوة في تعزيز سلطة القوى الاجتماعية المختلفة.
المشروع كبير جداً، وفيه كثير من النقاط المضيئة، وهو جدير بأن يقابل بالتفاعل الايجابي، على انه لا يمكن بتاتاً تحميل الوزير الحالي أو الإدارة المشرفة على المشروع إخفاقات سابقة ليسوا مسئولين عنها، فخلال ثلاثين عاماً كانت المشكلات الاجتماعية في بلادنا تدار بشكل سئ، وهذه المشكلات راكمت مشكلات كبرى سياسية واقتصادية لن تنمحي آثارها بين يوم وليلة، ولن يستطيع أي مشروع مهما كان جاداً وصادقاً، أن يحتوي كل مخلفات الماضي في مقطع زمني قصير.
المشروع الوطني للتوظيف يمثل في واقع الحال اخطبوطاً يحتاج إلى ترابط بين خيوطه المختلفة، بمعنى أنه من دون وجود مشاركة مجتمعية فاعلة في المساهمة في إنجاحه سيواجه طريقاً غير محمود، خصوصاً أن المشروعات الفاشلة الكثيرة تحد من فرص تقدم أي مشروع تطرحه الحكومة.
بوادر انفراج تبشر بالخير فعلاً هذه المرة، وتبعث أملاً جديداً في تخطي الحواجز النفسية بين الحكومة والعاطلين وأرباب الأعمال، ولمسنا هذا التفاؤل من لجنة العاطلين نفسها التي كانت تحرّك الشارع طيلة الفترة الماضية، فاللجنة أبدت موقفها الترحيبي من المشروع. وقالت انه يأتي استجابة مشكورة من ملك البلاد بعد العمل الدؤوب والمتواصل من قبل العاطلين، وبعد القيام بالكثير من الفعاليات والاعتصامات للمطالبة بتوفير فرص عمل لائقة، وتوفير تأمين ضد التعطل، ودعم الأجور.
الحل المنطقي إذا بعد ولادة عسيرة للتوافق على المشروع أن تجابه مشكلة البطالة وجهاً لوجه، وهذا ما يقوم به الوزير حالياً. وصحيحٌ أن هذا المشروع لن يقضي بالكامل على غول البطالة الذي يشكل أحد التحديات الرئيسية لأية مشروعات تنموية بحرينية في العقد المقبل، ولكن البداية المتأخرة - كما في المثل - خيرٌ من ألا نبدأ مطلقاً، والشهور المقبلة سيكون لها الكلمة الفصل في كشف نجاح المشروع أو فشله (لا قدّر الله)
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1220 - السبت 07 يناير 2006م الموافق 07 ذي الحجة 1426هـ