العدد 1217 - الأربعاء 04 يناير 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1426هـ

من يوم التضامن مع الأسير اللبناني إلى يوم الاستقلال والسيادة

من الذي سرق «14 آذار» من الآخر؟

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عاشت «أم جابر» حياتها على حافة التذكر، كما كان يقول ابنها البكر، فهي إن تذكرت أمراً عادت إلى نسيانه بعد وقت قليل وغرقت في الحيرة، إلى أن يأتي من يذكرها بالأمر الذي نسيته. في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، نزحت المرأة مع زوجها الى بيروت كما نزحت عشرات العائلات من قراها الى نعيم المدينة، حسبما كان يعتقد الجميع. وقتذاك ترك زوجها خلفه أرضه التي كان يعتاش منها وأخذه إغراء المدينة الى وظيفة هامشية في إحدى المؤسسات الرسمية في العاصمة وغرق في حياته الجديدة. في واحد من أيام الصيف الحارة، خرجت «أم جابر» صباحاً من المنزل بقصد شراء مستلزمات الغداء من خضار ولحم، واصطحبت معها ابنها الصغير غسان، ولأن المرأة لا تمل من المفاصلة على الاسعار ولا تركن الى خيار ما بسهولة، تعب الولد من كثرة المشي فطلب إلى أمه أن تحمله، فوضعته على كتفيها وأكملت طريقها، إلاّ انها نسيت أن الولد فوق كتفيها، وأخذت تسأل المارة عنه وتصفه وتصف ما يلبس بدقة «شفت ولد لابس قميص احمر وبنطلون اسود مخطط بابيض؟»، «ولد عمره خمس سنين حنطاوي... حدا شافه يا جماعة؟». ومن كانت تسأله يبتسم ويمضي في طريقه من دون إجابة، اعتقاداً منه أن المرأة إما تسخر منه أو أنها ترمي إلى أمر آخر، بعد نحو ساعتين من البحث والحيرة سألت «أم جابر» بائع الخضراوات «أبوجمال» عن ابنها، فقال لها: أليس هو من تحملين فوق كتفيك؟ «أم جابر» حمّلت الطفل مسئولية ذلك وأخذت توبخه على عدم تذكيره لها أنه فوق كتفيها. كانت المرأة أول ما نزحت إلى بيروت مرضت وبعد أن كشف عليها الطبيب وصف لها دواء، وبدلاً من أن تتناوله بحسب الوصفة الطبية شربته دفعة واحدة، اعتقاداً منها أن ذلك يؤدي إلى الشفاء السريع إلا أن الأمر ارتد عليها سلباً وأصبحت كثيرة النسيان. في العام 1978 اجتاحت القوات الاسرائيلية الاراضي اللبنانية واحتلتها وجوبهت بمقاومة ضارية آنذاك، وفي ذلك العام صدر القرار الدولي 425 القاضي بالانسحاب الفوري من الاراضي اللبنانية التي تحتلها «إسرائيل»، إلا ان هذا القرار وكما القرارات الدولية كافة المتعلقة بالقضايا العربية وضع على الرف، وبعد صراع طويل استطاعت المقاومة اللبنانية دحر الاحتلال الصهيوني من الاراضي اللبنانية في العام .2000 في العام 1982 وعقب الغزو الاسرائيلي الثاني للبنان، تحولت قضية الاسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية الى قضية أساسية واختير يوم الرابع عشر من مارس/ آذار يوماً للاسرى والمعتقلين في السجون الاسرائيلية، وباتت القوى المناوئة لـ «إسرائيل» تحتفل بهذا اليوم في محاولة لتذكير العالم بقضية هؤلاء الابطال. وعندما تغيرت العقيدة السياسية للدولة وبعد الاستدراك الرسمي اللبناني لقضية الاحتلال وتبني خيار المقاومة تحول هذا اليوم الى يوم وطني تنظم فيه النشاطات الرسمية والشعبية واصبحت «الشريطة الصفراء» رمزاً للتضامن مع الاسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية، وتحوّل الأمر بعد فترة إلى جعل هذا اليوم يوماً للمطالبة بتنفيذ القرار 425 وكانت غالبية القوى السياسية اللبنانية والشخصيات البارزة في الدولة تحرص على إعلان موقف من هذه المسألة يتناسب مع طبيعة المرحلة السياسية وقتذاك. واستمر إحياء الرابع عشر من مارس سنوات عدة، إذ كان يشكل مناسبة وطنية لبنانية في إطار المواجهة مع «إسرائيل». وبقيت على الهامش بضع قوى سياسية منذ الاساس حسمت موقفها من «إسرائيل» لم تشارك في هذا اليوم، وحتى في أحلك الظروف التي مر بها لبنان كانت هذه القوى على موقفها الصامت من «إسرائيل» (التزام الصمت هذا كان بعد حل الميليشيات اللبنانية).

خلاف على المغانم

الآن بات الرابع عشر من مارس مغايراً في شعاره ومضمونه، وباتت بعض القوى السياسية اللبنانية تعتبره يوماً «للاستقلال والسيادة»، ولكن مع تغيير في مضمون مفهوم السيادة والاستقلال أقله اعتبار المصطلح يخص حالاً سياسية معينة أو بالاحرى أخذ السيادة من جانب واحد مع غض النظر عن الجانب الآخر. وبعد أقل من عام على اتفاق هذه المجموعة من القوى على الانضواء تحت راية 14 مارس الجديد دبت الخلافات بينها وراح كل طرف يتهم الآخر بسرقة 14 مارس، وغاب 14 مارس الحقيقي بين طيات المماحكات السياسية اليومية اللبنانية واختلفت الصورة تماماً، إلى حد لم يعد يذكره أحد ولا حتى الحديث عن الخرق اليومي الاسرائيلي لحرمة لبنان بحراً وجواً واستخباراتياً. وإذا كانت السيادة رمزاً لحرية الدولة والشعب حتى في التخلص من وصاية أقرب المقربين (هذه الوصاية المسئولة عن غالبية مشكلات البلد) فإن التجزئة في هذا الشأن تدخل في إطار إعماء النظر عن امكان التدخل الاسرائيلي في لبنان من النافذة بعدما خرجت الوصاية السورية من البوابة الكبيرة. إن الخلاف على الرابع عشر من مارس هو في الأصل خلاف على المغانم التي من الممكن حصدها في المرحلة الانتقالية الراهنة التي يمر بها لبنان، والتي من الممكن ان تفضي الى العودة إلى المربع الاول، وتعود حليمة السياسة اللبنانية الى سابق عهدها وترجع نظرية «قوة لبنان في ضعفه» الى التداول مرة أخرى.

يموتون من أجل الوطن

بين الرابع عشر من مارس الحقيقي والرابع عشر من مارس المختلف عليه الآن، والذي يتهم كل طرف الآخر بسرقته التزم أصحاب 14 مارس الحقيقي الصمت، وكعادتهم في هذا البلد يموتون من أجل الوطن بصمت. عندما أخذت الميليشيات في تمزيق الوطن اخترع اللبناني وطنه الحلم عبر اطلاق تسمية «وطن» على الجندي اللبناني، وأخذنا جميعنا ننادي الجندي اللبناني بـ «الوطن». الآن هذا الـ «وطن» يكاد يكون محل شبهة من قبل الذين يريدون لبنان وطناً على مقاس مصالحهم، إلا ان الوطن الحقيقي بقي حلماً. وحتى في أوج الازمة التي تعصف بهذا البلد الصغير لم يدرك هؤلاء ان الذئب المتربص بلبنان لا تهمه الشخصية السياسية التي تحكم البلد بقدر ما تهمه الضحية التي يخطط للانقضاض عليها (وما أكثر الذئاب التي تريد من لبنان ان يكون ضحيتها المفضلة)، وبالتالي مهما كانت الفوائد التي سيجنيها اللاعبون اللبنانيون الآن، فستكون في نهاية المطاف «فرق عملة» في حسابات الذئاب. وما يجري الآن الدليل الأكثر وضوحاً على ذلك، فلقد اطلق النائب السابق للرئيس السوري عبدالحليم خدام أخيراً مواقف عدة تتصل بجوهر الأزمة اللبنانية الراهنة، وبدلاً من الاستثمار في هذا الموقف فيما يخدم البلاد، استثمر ذلك في المماحكات اليومية في الصراع على السلطة وعلى المناصب. وإذا كان خدام فضح جانباً من الممارسة السورية في لبنان وخصوصاً في موضوع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإن ذلك أدعى إلى فتح كل الملفات التي أقفلت على زغل من أجل البدء في مرحلة جديدة لا يكون الخلاف فيها على من سرق 14 مارس حفلة تنكرية في مهرجان هدم ما تبقى من البلاد، بل تكون مناسبة لوضع حد للمهزلة التي تحولت الى ما هو أشبه بالسيرك. وإذا كانت «أم جابر» نسيت ابنها على كتفيها وراحت تبحث عنه في شوارع بيروت، فإن القوى السياسية اللبنانية نسيت ان الخلاف على من سرق الآخر يعني في بعض جوانبه أن هناك لصاً وهناك مسروقات، وبالتالي لابد من السؤال عمن سرق الجمل بما حمل. من سرق لبنان كله ومن سرق من اللبنانيين أو كما أطلق عليهم في مطلع الحرب اللبنانية الغالبية الصامتة أحلامهم وقوتهم وبيوتهم وأولادهم و... حياة بعض شخصياتهم السياسية... وحتى... وطنهم؟ فهل هناك «أبوجمال» بائع خضراوات آخر يذكر بمن سرق لبنان؟ ليس لأي سؤال في لبنان إجابة واضحة، لأن أية إجابة تفتح الكثير من الملفات التي لا يرغب الطاقم السياسي اللبناني في فتحها، ويبقى الـ «تسلبط» على الرابع عشر من مارس وما يدور حوله من اتهامات هو العنوان الأبرز لـ «المكتوب الذي يقرأ من عنوانه»، فإلى متى سيبقى اللبناني يقرأ عناوين المكاتيب؟ * كاتب لبناني مقيم في الكوي

العدد 1217 - الأربعاء 04 يناير 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً