كل سلطة سياسية لها هوس أول وأخير، هو البقاء. وكل منظومة اجتماعية تقبع تحت السلطة السياسية لها هوسها أيضاً، وطبعاً، هو الحصول على حياة منتظمة، ومجتمع يحكمه نظام عادل، يساوي بين أعضاء المجتمع كافة.
إن ما تسعى الحكومة لتحقيقه بالنسبة لبقائها وديمومتها هو دعامة لتحقيق طموحات المجتمع في علاقة متماسكة، والمعادلة معكوسة في سياق لازم وصحيح. بمعنى، ان الحكومة لا تبقى، إلاّ إذا حققت للمجتمع متطلباته من العيش الرغيد والمنظم والعادل، والمجتمع لا يحصل على هذه البوتقة من الحياة الكريمة من دون وجود حكومة قوية، وصلبة، ومتصفة بالديمومة.
على أن تجاربنا السياسية العربية دائماً ما تقرأ المعادلة بطريقة معاكسة. دائماً ما تتوهم الحكومات أن تحقيق ديمومتها لا يتم إلاّ عبر كبت الحريات العامة، وتقييد المجتمعات العربية بأغلال الظلم والقهر. وغالباً ما تكون هذه الحال من «الحمق السياسي» هي المسبب الرئيسي لكل انتفاضة أو خروج على القانون من قبل المجتمع.
الحكومات العربية غالباً ما تكون خديعة «وهم القوة»، أو خديعة «كذب الإعلاميين». وهم القوة يعطي الحكومات إحساساً مزيفاً بأنها لابد أن تستخدم قوتها السياسية والعسكرية والإعلامية ضد شعوبها، إذا ما استخدمت الحكومات الإحساس بالقوة فهي ببساطة تفقد من هذه القوة بمقدار ما تستهلكها.
إن استهلاك الحكومات لقوتها ضد أمان شعوبها وتحقيق العدالة لجميع أفرادها، هو إهدار لقوتها ضد أعدائها الحقيقيين من جهة، وهو مدعاة لأن تكون الشعوب مقتنعة بأن حريتها تتعارض مع حكوماتها على المطلق السياسي، فكل ما تنتجه الحكومات من أفكار تطويرية هي «خداع»، وشتى مشاريعها للبنى التحتية هي «مشروعات سرقة»!
الخديعة الأخرى، هي «كذب الإعلاميين»، فالإعلاميون المتسلقون غالباً ما يتسابقون في التبشير بالمستقبل المشرق، فعبارات التنبؤ الفارغ من قبل بعض هؤلاء هي مسبب رئيسي في اتجاه الحكومات لتصديق تخاريفهم المستقبلية، والكذب حين يصبح ديدناً متواصلاً يأخذ طابع الصدقية مع مرور الوقت.
الإعلاميون الذين تحمل أوراقهم الصحافية مهنية منساقة نحو التطبيل والتعظيم والتهويل لجميع خطط الحكومات وبرامجها، هم يصنعون للحكومات هوساً مجنوناً عماده الانتصار والبقاء والنجاح، وينحتون من رؤساء الدول العربية «طواغيت» صماء، وحالات «الصمم» و«الوهم» إذا ما تكاملت في أية تجربة عربية فهي تمثل ببساطة البيئة المثالية للبيئة المحترقة سياسياً.
طبعاً، تستطيع أية حكومة من الحكومات العربية أن تصنع لنفسها مكاناً آمناً نسبياً عبر ممارسة الحماقة في السياسة، وتستطيع أن تصدق الإعلاميين مدفوعي الأجر، إلاّ أنها لابد أن تدرك أنها تتحامق ضد فرص ديمومتها وبقائها، وأنها بذلك تصل إلى منطقة محرمة سياسياً، بمعنى أن بقاءها رهين المصادفة أو الظروف الدولية المحيطة، فمتى ما كانت ساعات الحسم دقيقة، كلما كانت ساعات البقاء معدودة.
راهن صدام حسين على استخدام «القوة» ضد أبناء وطنه، وراهن على إعلامييه من مختلقي أسطورة «أم المعارك»، والنتيجة مدعاة للعبرة. الرهان اليوم في الدول العربية رهان إصلاح حقيقي شامل، وهو لا يحتمل أي نوع من أنواع الحماقة في القراءات السياسية، الوضع دقيق ومعقّد، وأحياناً هو «سريع» إلى الحد الذي يكون فيه التراجع نحو الديمقراطية خيار «الموتى»، أو في أحسن الأحوال، هو خيار المستخرجين من قاع الأرض كالجرذان
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1216 - الثلثاء 03 يناير 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1426هـ