الملكية الدستورية تصنف قانونياً من أرقى حالات العلاقة العقدية التي تربط الجماعات (الشعب) بالنظام السياسي، والملكية الدستورية حالة مدنية راقية تربط الناس في مجتمع ما. والبحرين تحولت من دولة غير ديمقراطية إلى مسمى ملكية دستورية، وهذا التحول السياسي كان تاريخياً بكل ما للكلمة من مدلول.
الملكية الدستورية البحرينية الجديدة، يؤكد الدستور أنها على غرار الديمقراطيات العريقة، وهو تعبير حضاري وأنيق جداً تتفاخر به الأجهزة الدبلوماسية للمملكة داخلياً وإقليمياً ودولياً. وهذا الشعار الجميل أكسب التجربة السياسية البحرينية احتراماً وتقديراً كبيرين، خصوصاً بعدما صوّتت الغالبية العظمى بالموافقة على مشروع الميثاق الوطني لإرساء أسس هيكل سياسي جديد في البحرين.
والتعبير الجوهري والأسمى للملكية الدستورية هو مشاركة الجماهير في اختيار حكومتها، اعتماداً على القوى التي تتمكن من إحراز مواقع متقدمة في الانتخابات التشريعية، ولكن نظرة عابرة لغالبية النظم السياسية الملكية في العالم العربي لم يصل مستوى التمثيل الشعبي فيها إلى السيطرة على السلطة التنفيذية إلاّ في بعض الحالات المحدودة جداً. على رغم أن هناك دولاً عربية تلبس نظامها السياسي شعار «الملكية الدستورية»، لكن على أرض الواقع لم يتحقق تطبيق هذا الشعار الراقي. وربما التجربة العربية الوحيدة التي استطاعت تحقيق هذا النسق السياسي هي التجربة المغربية التي وصلت فيها المعارضة إلى السلطة بالتوافق مع الإرادة الملكية هناك.
المعارضة البحرينية نظمت عشرات المؤتمرات والندوات والمسيرات التي تطالب بعقد دستوري توافقي، معتمدة في مطلبها على غطاء الملكية الدستورية أيضاً، لكن أحداً في القوى السياسية المقاطعة فضلاً عن المشاركة لم يطرح مشروعاً ناضجاً وواقعياً لتطبيق الملكية الدستورية من بوابة «تداولية السلطة»، وذلك نابع من ظروف كثيرة أوجدها الواقع البحريني المتأزم طيلة عقود من الزمن. فالحكومة هي ذاتها لم تخضع إلى تغيير جوهري منذ ثلاثين عاماً، على الرغم من كثرة التعديلات الوزارية في السنوات الماضية. ولم يطل هذه الحكومة تغيير رئيسي إلاّ في الأشهر الأخيرة عندما عين وزيران جديدان للداخلية والخارجية.
مسئولون كثيرون لا يترددون لحظة في الإجابة على السؤال عن «تداولية السلطة» وسبب عدم تطبيقه في الملكية الدستورية البحرينية، بالقول ان تجربتنا السياسية الوليدة لم تنضج بعد، وعلى رغم أن هذا يمثل للكثيرين تهرباً واضحاً من أزمة دامت عقوداً، وأنتجت جليداً سياسياً لا يتبدل، ولكن من جانب آخر فان في الرأي الرسمي- بغض النظر عن أهدافه وغاياته - كثيراً من الصحة، لأن القوى السياسية البحرينية ليست مؤهلة بعد لتسلم السلطة التنفيذية لأسباب شتى. فالقوى السياسية، وعلى رأسها الجمعيات المقاطعة للحياة البرلمانية، لم تستطع أن تقدم مشروعاً اجتماعياً أو اقتصادياً متكاملاً يستطيع مقارعة مشروعات الدولة في ملفات الموازنة العامة والصحة والتعليم والإسكان والبيئة وتطوير المنظومة القضائية.
كثير من القوى السياسية البحرينية لم تستطع أن تضبط لائحتها الداخلية أو موازنتها الخاصة، ولم تستطع استثمار مواردها الذاتية في أي مشروع ذي جدوى. ومن ناحية أخرى فان الجسم الرئيسي للقوى السياسية يعيش وفق إفرازات مذهبية وطائفية واضحة.
الحقيقة تفرض علينا الاعتراف بأن قوانا السياسية لم تصل بعد إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تضغط من أجل تطبيق مفهوم «التداولية»، لأنها لم توفق في طرح رؤية لسلسة من الإشكالات التي تعصف بالبحرينيين. وكثير من هذه القوى ليست لديها علاقة حسنة مع بعضها البعض، إذ فرّقها خيار المشاركة والمقاطعة إلى نواد كثيرة، فهي إذا بحاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى للتصالح مع الذات قبل التصالح مع الشريك أو الطليق الحكومي!
كبرى القوى السياسية شغلت أو أشغلت بالملف الدستوري، وحتى عندما أسست أمانة خاصة تتابع هذه القضية، فإنها لم تطرح رؤية دستورية بديلة وقابلة للتطبيق. وعندما نؤكد أن القوى السياسية الرئيسية المشاركة والمقاطعة أخفقت في إدارة الملف السياسي بفطنة وحكمة، فهذا لا يعني أبداً أن الحكومة كانت تجاوزت مثل هذه الأخطاء الفادحة، لكن ذلك لا يعفينا من المسئولية أيضاً.
يؤسفنا الاعتراف بأن قوانا السياسية بحاجة إلى وقت ليس بالقصير للتدريب والتثقيف وتعلّم كيفية استخدام أدوات المهادنة والمواجهة مع سلطات الدولة، وهي بحاجة إلى وقت أطول ربما لتضع يدها على جرح واقعها المزري، وما يضحك في الأمر أن السقف السياسي للمعارضة لا يزال منخفضاً حتى تحت درجة ما بمقدور الحكومة أن تقدمه إذا أحست بضغط حقيقي ذكي يسعى من أجل التعديل والتطوير.
الحل المنطقي هو التطبيق التدريجي والمشاركة الشعبية الواسعة في السلطة التشريعية وتنشيط المجتمع المدني وأن تلعب القوى السياسية كتيارات مؤسسيه تناطح المشروعات الرسمية في كل الملفات، وتشكيل فرق عمل وإجراء دراسات علمية نقدية للواقع الحكومي، وتطويع أوراق الضغط المتوافرة لخدمة المشروع السياسي المتكامل.
لا يكفي أن نطالب بممارسة حقنا في العمل السياسي وفق تقاليده المعروفة والمتجذرة في التجارب الديمقراطية من دون أدوات مؤسسيه حقيقية، بل يجب علينا أن نضع كل مواردنا ونجند إمكاناتنا الذاتية من أجل أن نقنع الحكومة والناس، وقبل ذلك أنفسنا، بأننا جديرون بتحمل مسئولية قيادة التغيير المؤسسي فعلاً، وإلى ذلك الحين هل ستبقى المعادلة على ما هي عليه الآن
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1214 - الأحد 01 يناير 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1426هـ