انشغل الرأي العام الألماني خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية بقضيتي خطف. قضية الخطف الأولى تتعلق بسوزانا أوستوف، التي يكتنف ظروفها غموض، كما أن عليها أكثر من علامة استفهام. أما القضية الثانية فتتعلق بمساعد وزير الخارجية الألماني السابق يورغن كروبوغ وأسرته، والتي أوضحت مرة جديدة استمرار الصراع بين القبائل مع حكومة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح.
فيما يتعلق بقضية خطف أوستوف التي أصبح البعض يشك في صحتها، سرعان ما انتهت فرحة الألمان بالإفراج عنها بعد جهود مكثفة شاركت فيها وسائل الإعلام العربية التي قامت بنشر وبث نداءات مسئولين ألمان. كما ظهر مسلمو ألمانيا مطالبين خاطفي السيدة الألمانية بالإفراج عنها. كل يوم جديد تنكشف معلومات جديدة تزيد من الشكوك بخصوص سلوك أوستوف، التي كان الألمان ينتظرون عودتها إلى بلدها بعد الإفراج عنها، لكنها لم تفعل. كما لم تتوجه بالشكر إلى الناس الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بالإفراج عنها.
هل هي عالمة آثار فعلاً؟
وهناك علامة استفهام عن قيامها بالظهور على محطة تلفزيون «الجزيرة» وهي تغطي رأسها، بينما كشفت عن وجهها لكنها ظهرت على التلفزيون الألماني مساء الأربعاء وقد غطت كامل وجهها باستثناء العينين، وتحدثت بعصبية من دون أن توضح كيف ستمضي في حياتها بعد كل ما جرى.
وكانت أوستوف أشعلت مناقشات في برلين عقب بث المقابلة التي بثتها «الجزيرة» حين أشارت إلى نيتها العودة إلى العراق. وعلى رغم أن البعض في العاصمة الألمانية زعم أن خطأ في ترجمة أقوال أوستوف تسبب في سوء فهم ما ذكرته، إلاّ أنها لم تشر بوضوح إلى هذا الموضوع في حديثها مع التلفزيون الألماني.
من جانبه، حذر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير هذه المواطنة الألمانية من العودة إلى العراق كما فعل سياسيون ينتمون لأحزاب الحكم والمعارضة باستثناء زعيمة حزب الخضر كلاوديا روت التي قالت إنه من حق سوزانا أوستوف اتخاذ قرارها بمحض حريتها، واختيار المكان الذي ترغب العيش فيه. وكانت أوستوف وجهت الشكر إلى المستشار السابق غيرهارد شرودر الذي ظهر على «الجزيرة» ووجه نداء إلى الخاطفين، كما شكرت شيخاً يدعى محمد المحمد، وقالت إنهما ساعدا في الإفراج عنها.
حين كانت اوستوف في قبضة الخاطفين، قيل إنها تتحدث اللغة العربية بطلاقة، وحين بلغ أنها قررت الحديث إلى محطة إخبارية عربية عوضاً عن وسائل الإعلام الألمانية التي كانت تتنافس للفوز بالتحدث إليها، توقع الكثيرون أن تتحدث إلى المحطة العربية باللغة العربية، لكنها تحدثت بالإنجليزية. كما أنها لم تكشف عن خطط المستقبل ولم تعلق على إصرار السياسيين الألمان كي تعود إلى بلدها الأصلي. مما لم يثبت حتى اليوم أن سوزانا أوستوف عالمة آثار كما قيل. في هذا الحقل ليس هناك ما يثبت ذلك باستثناء الصور التلفزيونية التي تظهر فيها مع بعض الرجال العراقيين وهم ينقبون في الأرض. كما أن السلطات الكردية في مدينة أربيل لا تعرف شيئاً عن مشروع أوستوف بإنشاء مركز ثقافي ألماني في المدينة المذكورة.
قطعة شطرنج
فهل سوزانا أوستوف مغامرة أم أنها تعاني من أزمة نفسية نتيجة لعملية الخطف، أم أنها قطعة شطرنج في لعبة كبرى؟
من الملاحظ أن الإعلان عن خطفها سبق وصول وزيرة الخارجية الأميركية إلى ألمانيا كوندليزا رايس، في وقت كانت واشنطن تتعرض فيه لانتقادات قوية بسبب قيام الـ «سي آي أيه» بخطف مواطنين عرب من بلدان أوروبية واستخدام مطارات وسجون في أوروبا لاستجوابهم ونقلهم إلى غوانتنامو ومعتقلات أخرى. ووعدت رايس المستشارة أنجيلا ميركل في ذلك الوقت بالتدخل للإفراج عن أوستوف، لكن أحداً في برلين لم يسجل خطوة أميركية واحدة في هذا الاتجاه.
الملفت للنظر أن الخاطفين طلبوا في البداية في شريط فيديو أرسلوه إلى مكتب التلفزيون الألماني في بغداد بأن توقف ألمانيا تعاونها مع الحكومة العراقية كشرط للإفراج عن أوستوف وسائقها الذي اتهم بالتعاون مع الخاطفين. لكن أوستوف قالت بنفسها إن خاطفيها يريدون من ألمانيا بناء مستشفيات ومدارس في مناطق السنة. في ذلك إشارة إلى أن خاطفيها من السنة، لكن العملية تمت في مناطق تخضع لنفوذ الأكراد.
قالت أوستوف للتلفزيون الألماني إن الخاطفين شكوا في البداية بأن تكون تعمل للمخابرات الإسرائيلية. وهذا الشك لا ينبع من فراغ، ففي العام الماضي أمضت سيدة فرنسية بعض الوقت في مدينة أربيل وزعمت أنها عالمة آثار وراحت تنادي بضرورة حماية الآثار العراقية مثلما فعلت أوستوف. وتبين أن الفرنسية أمضت قبل ذلك بعض الوقت في لبنان كصحافية وعاشت في ضيافة حزب الله، ثم انتقلت إلى الفلوجة، وبعد وقت قصير في أربيل سافرت إلى المحيط الكاريبي. إنه السلوك الذي يجعل المتابع يسأل إن كان نشاط السيدة الفرنسية تجسسياً ولحساب جهاز استخبارات غربي، مثلما يطرح عن نشاط سوزانا أوستوف.
وفي سياق ما نشر من معلومات قبل الإفراج عنها قيل إن أوستوف اتصلت قبل توجهها مع سائقها بألماني يزعم أنه عالم آثار، وأبلغته بمكان وجودها ثم قيل إن عميلاً للمخابرات الألمانية في العراق حصل على اتصال من أوستوف! حتى صحيفة «فرانكفورتر الجماينه» المعتبرة لم تستبعد أن تستغل المخابرات الألمانية العدد القليل من المواطنين الألمان الموجودين في العراق للحصول على معلومات.
الزوج من قبيلة شمر
ثم هناك سؤال آخر: من أين حصلت أوستوف على المال؟ في اليوم الذي اختطفت فيه لم يكن لديها ما يكفي لشراء تذكرة سفر بالطائرة من بغداد إلى أربيل. لكن المعروف أن ابنتها (طرفة) موجودة في مدرسة داخلية في ولاية بافاريا الألمانية. كما أن زوجها السابق الذي ينتمي إلى قبيلة الشمر المنتشرة في شبه الجزيرة العربية لا يدفع نفقة لابنته. كما أن أوستوف كانت على صلة بالرئيس العراقي المؤقت السابق غازي الياور الذي يتزعم قبيلة شمر، وكذلك جمال الدليمي (الطبيب السابق للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين)، إذ يعتقد أن عائلة الدليمي تدعم المقاومة السنية النشطة في العراق.
ما مدى علاقة أوستوف بالأطراف المؤثرة في العراق؟ أمر غير معروف. في منتصف الثمانينات جاءت أوستوف إلى العراق برفقة البرفيسور في جامعة ماربورغ فالتر زومرفيلد الذي أسس جمعية الصداقة الألمانية العراقية، وكانت الجمعية ترتبط بعلاقات وثيقة مع بغداد. وقالت وزارة الخارجية الألمانية إنها قررت صرف مساعدات كانت تقدمها إلى أوستوف وتدعم نشاطاتها في العراق!
أوستوف فاجأت جميع المراقبين بعدم الحضور إلى ألمانيا بعد الإفراج عنها، ولم تتصل بأسرتها عند حلول عيد الميلاد على رغم الدور البارز الذي قامت به شقيقتها. وعوضاً عن المجيء لزيارة ابنتها سافرت ابنتها إليها في الأردن! حتى صحيفة «فرانكفورتر ألجمايته» تساءلت ما إذا كان امتناعها عن الحضور لألمانيا هدفه الفرار من وسائل الإعلام أم أن الحكومة الألمانية أكثر معرفة بها مما أقرت به حتى اليوم، واكتفت بالإعلان عن وقفها توفير دعم مالي لأوستوف وبدأت تتنصل من العلاقة بها؟
حذّر من الخطف فاختطفوه!
قضية الخطف الثانية لا تحيط بها مثل هذه الشكوك، وتمت وفقاً لتحليلات المراقبين عن طريق المصادفة، إذ لا يخفى أن صراعاً مريراً يدور في اليمن منذ وقت بين القبائل والسلطات المحلية. وشاء القدر أن يقع مساعد وزير الخارجية الألماني السابق يورغن كروبوغ وأسرته في قبضة قبيلة تسعى منذ وقت إلى الإفراج عن خمسة من أبنائها الموجودين في السجن. وقد ترأس كروبوغ بنفسه لجان أزمات وتفاوض مع خاطفي مواطنين ألمان، وكان أكبر نجاح حققه في عمله الدبلوماسي في العام ، حين نجح في التفاوض مع خاطفي رهائن أوروبيين في الجزائر وعاد بهم إلى ألمانيا.
خلال نقاش قضية أوستوف، قال كروبوغ المتزوج من المترجمة المصرية الأصل ماجدة جوهر، ابنة الكاتب المصري المعروف يوسف جوهر: «من يزج بنفسه في مناطق خطرة لابد أن يدرك حجم الخطر الذي أوقع نفسه فيه». كما كان كروبوغ صاحب قرار تحذير المواطنين الألمان من السفر إلى عدد من دول العالم بينها اليمن.
الناطق باسم وزارة الخارجية في برلين قال إن كروبوغ الذي تقاعد في الصيف الماضي سافر مع أسرته إلى اليمن تلبية لدعوة من مساعد وزير الخارجية اليمني الذي شغل سابقاً منصب سفير بلاده في ألمانيا وارتبط خلال ذلك الوقت بعلاقة وطيدة مع كروبوغ. ولا تعتقد برلين وجود دافع سياسي لخطف المسئول الألماني السابق وأسرته، لذلك فإن ألمانيا تتوقع نهاية سعيدة للعملية، بأن يجري الإفراج عن كروبوغ وأسرته في القريب العاجل.
العدد 1214 - الأحد 01 يناير 2006م الموافق 01 ذي الحجة 1426هـ